ابو عرب ستون عاماً عمر نضاله وأغانيه،محمد صالح المعروف بأبي عرب صمد وصبر أمام كل التحديات فقتله المرض، وربما الحزن على واقع فلسطين والوطن العربي،وفلسطين والعرب يبكونه.
كيف لا ينشد بكلمات من نور أرض أجداده وهو الذي كان في السادسة من عمره حين شاهد المحتل الانكليزي يطارد عائلته عام ستة وثلاثين، كيف لا يصنع من الذكرى قصيدة من صبر ونضال وهو الذي كان في الثامنة عشرة من العمر حين حلت النكبة بفلسطينه وفلسطيننا، كيف لا يجعل من الأرض السليبة والناس الطيبين قصة عمر وهو الذي جرح فيما المحتل يقصف شجر زيتون أجداده.
التقيته مرتين في احتفالات اقامها حزب الله تكريما له في مخيم البص ومدينة صور قبل عامين ،حيث شكل حضوره باغانيه الثورية التي الهبت الحضور اعادتني الى اغانيه الاولى عندما غنى يا موج البحر وهدي يا بحر هدي بعد عملية نهاريا البطولية لمناضلي جبهة التحرير الفلسطينية.
رحل مطرب الثورة الفلسطينية أبو عرب، بعد صراع مع مرض عضال. كثيرون لا يعرفون اسمه الحقيقي بعدما طغى لقبه عليه، هو إبراهيم محمد صالح، الذي أقام في سوريا التي أحبّها وتركها مؤخراً من أجل العلاج في لبنان، في مستشفى بيروت الحكومي. كان يتمنى الموت في فلسطين، قرب توتة الدار التي لطالما غنى لها.
هو ابن قرية الشجرة التي تركها بعد دخول الصهاينة اليها عام 1948، أبو عرب ابن شهيد معركة قرية الشجرة التي استشهد والده دفاعاً عنها عام النكبة. وكان الفنان الراحل احد مؤسسي فرقة نوح إبراهيم الفنية الذي أسستها جبهة التحرير الفلسطينية في لبنان، وبعدها أنشأ فرقة ناجي العلي التي سميت تيمناً بالشهيد الرسام، خلال الثورة الفلسطينية في لبنان، كان ابو عرب مطرب الفدائيين المفضل وغنى لهم "هدّي يا بحر"، من سجن عكا"، "العيد"، "يا موج البحر"، بالإضافة الى أغاني العتابا والمواويل، الكوفية التي لطالما ارتداها اهداه اياها "ابو عمار"، لان ابو عرب كان رمزا لفلسطين لذلك يجب ان يرتدي رمز فلسطين الكوفية، عندما كان ابو عرب يقف على المسرح، كان يعود الى شبابه، وكانت المخيمات الفلسطينية في لبنان شاهدة على عدد من حفلاته، فلسطين خسرت اليوم صوتها برحيل ابو عرب وموته في الشتات.
أولى أغانيه روت قصة فدائي يودعه شقيقته ويعود شهيداً، أولى اطلالاته كانت عبر صوت العرب في القاهرة حين كان المجد العربي معقوداً لجمال عبد الناصر وفرقته الموسيقة الأولى رأت النور في الأردن سماها فرقة فلسطين للتراث الشعبي.
صارت أغاني محمد صالح المعروف بأبي عرب أناشيد الفدائيين وأهازيج العرب وبيرقاً من كلام يتقدم المناضلين.
صارت فلسطين شعراً، صارت عتاباً وميجانا ودلعونة، استعاد أبو عرب من تراث الأرض قصص النضال ، غنى للناس الطيبين، أنشد للفدائي الرابض خلف السور ينتظر العودة إلى فلسطين ، رفض الغناء للزعماء والقادة لكن استشهاد أبي عمار مسموماً بعد قهر الحصار في المقاطعة أبكاه فأنشد للرئيس حين صار الرئيس جثة في ضمير بعض القادة العرب، كضمير بعض القادة العرب، وشهيداً حياً في ضمائر الشرفاء.
وفي احدى الليالي التي احياها اجهش الرجل بالبكاء "متألماً على حال شعبنا" ومعرباً عن حزنه للوضع الذي وصلت إليه الحالة الفلسطينية بسبب الانقسام وتراجع اهميتها على المستوى العربي.
رحيل أبو عرب الذي غنى "راجع ع بلادي.. راجع ع بلادي.. ع الارض الخضرة راجع ع بلادي.. توفي الثائر وما رجع.
استشهد والد ابو عرب خلال نكبة العام 1948، فيما استشهد ولده في العام 1982 خلال اجتياح الجيش الإسرائيلي لبنان. وشهد في طفولته انطلاقة الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 ضد الاحتلال البريطاني والاستيطان.
ألّف ولحّن وغنى كثيراً من الأغاني الوطنية، ومن أشهرها:
ــ من سجن عكا ــ العيد ــ الشهيد ــ دلعونا ــ يا بلادي
ــ يا موج البحر ــ هدّي يا بحر هدّي ــ يا ظريف الطول زور بلادنا
كانت امنية الشاعر أبو عرب أن يعود لفلسطين، وقد حققت له اللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم هذا الحلم، من خلال مشاركته في الملتقى الثقافي التربوي الفلسطيني الخامس والسادس، على أرض الوطن، حيث حضر إلى فلسطين بعد غياب استمر أكثر من 64 عام، ورغم شيخوخته واعتلال صحته تجول أبو عرب معتمرا كوفيته -هويته- مشيا على الأقدام في ديرته التي عاهدها بكثير من قصائده المغناة بعدم النسيان مهما طال الزمان، وهو يناجيها شعرا ومواويل وكأنه لقاء حبيب بمحبوبته بعد غياب ، لحّن وغنى عشرات القصائد الوطنية وأغاني العتابا والمواويل، ودّع بلدته عند مغادرتها وهو يناجي عين الماء فيها كأنه يراه للمرة الأخيرة بلهجة تقطر حنينا وحزنا:
"يا عين الميّ كان الشجر جاري... لكن الزمن بالظلم جاري.. بعد نبعك يا عين المي جاري... بعد ما تغربوا شمول الحباب". ولم يغادر أبو عرب قبل أن يصطحب معه حفنة تراب وبعضا من حجارة الشجرة تذكارا هدية لأحفاده في سوريا، وقال أن الحقوق المسلوبة ستعود لأصحابها، موضحا أن معظم شهداء فلسطين ولدوا خارجها. " الشجرة ستبنى من جديد، وأولادي يحبونها أكثر مني وأحفادي أكثر من آبائهم
وقد ارثى ابو عرب ابنه الشهيد
انا استشهدت يا رفاقي احملوني
على خشاب الباروده اسندوني
اذا ما فيكم لاهلي تشلوني
امانه تحققو بنفسي مناها
وعلى قبلة وطنا مددوني
وخلو الوالده تزيد رضاها
لم يجمع الفلسطينيون، طوال تاريخهم الحديث، على أي شيء تقريباً، الا على من حمل ارثهم وثقافتهم ، وابو عرب الذي احبه الشهيد القائد ابو العباس بأغانيه الثورية التي لا تضاهى، حيث جعل آلام المنفى رغيفاً يومياً للفلسطينيين اللاجئين. من خلال حياته الفنية التراثية .
أن ابو عرب كان يجذب ، ولكنه كان عصياً على الاستقطاب، فلم يرتهن لأحد سوى قضيته الأولى والأخيرة، فكانت اغانيه بمثابة كمية الملح التي يسكبها في فنجان القهوة الصباحي ،يدخل كل البيوت مثل رغيف الخبز.
انحاز الفنان الراحل للمجتمع الفلسطيني والعربي ودفاعه الباسل عن فلسطين، واحب قريته "الشجرة" شمال فلسطين التي ولد فيها ، وعندما كان يغني لفلسطين يحبس الدمع في عينيه ، فأبكى العرب،كان يمني النفس بالعودة يوماً مع المنتصرين،ربما مات وفي قلبه غصتان واحدة على فلسطينه التي شاهدها تضيع، وأخرى على سوريا التي احتضنته فشاهدها تدمر، رحل أبو عرب.
ختاما : ان اغاني ابو عرب تمتد على مساحة الوطن ،جميعها تتميز بالنضوج الثقافي وستبقى خالدة في سماء فلسطين .
كاتب سياسي