حقيقة لست ضد التقدم والحياة الراقية ولكني أقول هنا ليس من باب التشاؤم أو الإحباط أنه كلما تتطور الوسائل التكنولوجية لا تنتابني فرحة عارمة بها كأي إنسان عادي. بل تصيبني رجفة ووحشة وقشعريرة تسري في عروقي فتدغدغ كياني كحبات القمح عندما تلتهما الحصادة الزراعية .. لأنه برأيي أن العلاقة بين التقنية والطبيعة الإنسانية هي علاقة ليست طردية بل عكسية كالعلاقة بين.. عمر الإنسان والزمن الذي انتزعت منه البركة ولودققنا اليوم بعمق لوجدنا أن عقارب الساعة تزداد سرعة فتطوي بعقاربها السنين والشهور و الأيام والساعات وما هي إلا لحظات جميلة عندما نتوقف عليها إلا ونكتشف أنها صارت بقايا ذكريات ورغم ذلك ..أحيانا كثيرة نجد من أولئك السوافون في الحياة الذين قست قلوبهم كما هي أحوال الحياة التطورية اليوم وهم كثر ..نجدهم كم ينتظرون مرور الأيام ،والسنوات بفارغ الصبر لتحقيق آمال هامشية تافهة أو إيجابية قد تتحقق وقد تمضي كما السحاب ..هم مساكين إن عاشوا .. لأن الزمن عندئذ يكون قد أضفى على وجوههم وجلودهم تعرجات همجية كتدفق النهر في المناطق المسطحة، و قد امتدت التجاعيد بسواحلها على بقايا أجساد هزيلة مريضة ليس لها سوى الله سبحانه ..وتلك سنة الله في الكون.. مساكين من هم يتشبثون بالحياة فيتصورون أن كل الناس موتى ،وهم وحدهم أحياء ولا أعرف لما يغتالني ذاك الشعور أكثر عندما أرى رهط الرجل الذي فارق الحياة ،وهم عائدون بعد تشييعهم جنازته ،وبعد مغادرتهم القبور ..!! ،أذكر بمخيلتي منذ سنوات ليست ببعيدة كانت المدن رمز الحضارة والتقدم مع زحامها وضجيجها .. وكانت القرى رمز الخصوبة والعطاء والخضرة والجمال ،والسحر والهواء الطلق وراحة البال برغم الفقر وانقطاع الكهرباء وتلوث المياه ورحلة الشقاء اليومية من قبل طلوع الشمس إلى وقت المغيب ..وكانت حياة البادية رغم بساطتها في بعض الأمور وقسوتها في أمور أخرى إلا أنها منبت الأنبياء والحكماء والشعراء وملجأ للصالحين والزهاد والعباد اليوم تبدل كل شيء ،و لما فتشت عن سر اختفاء وعدم تصدير العباقرة من القرى أو البادية إلى المدن في الأدب والطب وكافة الميادين ..وجدت إن السبب الرئيسي يمكن حصره في مثل تلك الأمور هو الزحف الجغرافي للبادية والقرى للمدن فاختلط الحابل بالنابل ،ولم تعد هنالك قيمة لا للبادية ولا للأراضي الزراعية الأم ،المصدر الطبيعي والرئيسي للحنان والحب والغذاء والرزق وأنّى لنا ذلك ،بعدما انساق الفلاحين لنداء النداهة الراقدة بأغوار المدنية وارتدوا ثياب جديدة لا يمكن أن تليق برحلة كفاحهم ..!! وأنّى للذين كانوا يدفعون بأبنائهم إلى البادية لاكتساب صفات الشجاعة والكرم والفروسية وتحمل الصعاب وقد غزت البناطيل الساحلة عقول وأجساد الشباب ، ،و لذلك كلما ازدادت حياتنا حضارة ورقي .. ازدادت مشاكلنا ،ومآسينا وازداد انسلاخ الإنسان المجتمعي عن كافة الروابط بما فيها أسرته الصغيرة ،حتى أسمى العلاقات بين البشر وهي علاقة الألفة ،والود قد تبدلت وتغيرت أنسجتها وتلونت كالحرباء ، وتكاد أن توشك على حافة الانهيار..فاليوم تكفي رسالة واحدة عبر الموبيل أو الفيس بوك أو غيره لتقيم علاقة أو تهدمها برمتها .. ،لكن رسائل البناء في أزماننا قلما تصل.. بعدما نفذ الرصيد ولذلك هان كل شيء .. !!