العلاقات المصرية الفلسطينية بالخصوص والشامية على وجه العموم أكبر من أن يجهلها أو يتجاهلها أحد، بل إن بلاد الشام منذ القدم قبل الإسلام كانت مصر توليها غاية الاهتمام ، وهذا الاهتمام من نواحٍ عديدة :
ففي الناحية الأمنية والإستراتيجية على سبيل المثال تعتبر بلاد الشام ومفتاحها فلسطين ، بوابة مصر الشرقية التي لا أمن ولا استقرار لمصر إذا كانت مستباحة من قوىً خارجية غازية أو قوىً داخلية باغية ، تنتج عنها الاضطرابات والزعازع التي تزلزل أمن البلاد الشامية وبالتالي تتأثر البلاد المصرية، وكانت بلاد الشام هي طريق الحروب المتكررة بين المصريين والحثيين كما هو معلوم للدارسين ، وكان الدور المصري يتجاوز حد التأثر إلى التأثير الإيجابي كما هو الحال في الغزو المغولي إذ كانت هزيمة المغول في عين جالوت وفي الحروب الصليبية كانت هزيمة الصليبيين في معركة حطين، وكان للجيوش المصرية الأثر الأكبر في تحقيق النصر فهم خير أجناد الأرض كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وصحيه وسلم، وإلى يومنا هذا الأمن المصري مرتبط بالأمن الشامي ومنه الفلسطيني ، وكذلك الأمن الشامي ومنه الأمن الفلسطيني مرتبط بالأمن المصري، وكانت المقولة الشائعة لا حرب بدون مصر ولا سلام بدون سوريا، باعتبار سوريا قاعدة البلاد الشامية ، ومن هنا كان التنسيق الدائم والتعاون التام بين القيادة المصرية وبين القيادات الشامية في سوريا والأردن ولبنان وفلسطين، وكان السعي من الجميع لتطابق أو تقارب وجهات النظر في كافة الصعد السياسية والاقتصادية وغيرها سواءً العلاقات البينية أو العلاقات الخارجية، ومحاولات الإصلاح في الاختلافات الداخلية ، وكانت تجربة الوحدة ( الجمهورية العربية المتحدة ) التي لم تعمر طويلاً ، وكانت الحروب الأخيرة التي خاضتها الجيوش المصرية وآخرها حرب رمضان 1393 هـ ، أكتوبر 1973 ميلادية.
وعلى ذلك يمكننا فهم النواحي الاقتصادية التي تربط فلسطين وبلاد الشام مع مصر وتشير إليها سورة يوسف، حينما كان الجدب والقحط في فلسطين مما حدا بأهلها وكما ذكره الله تعالى عن يعقوب عليه السلام أنهم عمدوا إلى مصر لسد احتياجاتهم الضرورية من الطعام والميرة.
وأما النواحي الاجتماعية والإنسانية فالأمر فيها لا يحتاج إلى كبير عناء فكثير من العائلات المصرية أصلها شامي وكثير من العائلات الشامية أصلها مصري أو هي ممتزجة بعلاقات الصهر والنسب كما قال تعالى :( وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهرا وكان ربك قديرا ) .
فلسطين والعرب: فلسطين مهوى القلوب، و مرتع العيون، حبها يجري في عروق ودماء من عرفها أو سمع بها، والأذن تعشق قبل العين أحيانا ، ومنها اتصلت الأرض بالسماء في ليلة الإسراء و المعراج ، وائتلفت أتباع الأنبياء عليهم السلام ، ولكنها لذلك لقيت ولا زالت تلقى من الصراع والتنازع عليها بين الأمم ما لقيت ، ودليلنا ما نكابده ليل نهار منذ سنين وعقود طويلة تقارب قرناً من الزمان ، ومن هنا لا يمكن لأهل فلسطين وحدهم أن يصدوا هذا العدوان الغاشم والطمع الباغي ، كما لا يمكن لهم أن يسلموا من محاولات الكيد والمكر للنيل من تماسكهم ووحدتهم التي هي مصدر قوتهم ، ومفتاح نصرهم على عدوهم بتوحيدهم لله عز وجل وطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ثم لقيادتهم التي حملت أعباء الحر والقر، والكر والفر على مدى السنين المتطاولة ؛ إلا بالحرص الأكيد على هذه الوحدة، والبعد الشديد عن أي سبب من أسباب الفرقة والعداوة، والنأي عما يمزق لحمتهم ، ويضعف بناءهم ، ويشتت صفهم ، والله تعالى يقول ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ) ، ومن هنا حرصت أمتنا العربية والإسلامية ومنهم المصريون على الوقوف إلى جانب أهل فلسطين ونصرتهم على مر السنين، وهذه الدماء العربية الزكية التي روت ثرى فلسطين ، والنفوس الأبية التي قرت عينها بالخلود فيها إلى يوم البعث، شاهدة على صلابة الوقفة اليعربية والإسلامية، كما حرص أهل فلسطين على تماسكهم وتوحدهم وصلابة موقفهم من عدوهم ، ولم يكن لاختلاف آرائهم سبيل إلى الخصومة والتنازع المفضي إلى شل سعيهم وإفشال توجههم للخروج من المأزق العظيم الذي هم فيه .
اتفاقية أوسلو والسلطة والفصائل المعارضة: حتى كانت اتفاقية أوسلو ، وكان رجوع كثير من الفلسطينيين و القيادة الفلسطينية التاريخية برئاسة الرئيس ياسر عرفات رحمه الله بمقتضاها إلى فلسطين وإقامة السلطة الفلسطينية لأول مرة تمهيداً لإقامة الدولة ، وعارضت بعض الفصائل من الناحية السياسية ، وبعضها تجاوز المعارضة السياسية المشروعة من وجهة نظر السياسة المتبعة ، إلى المعارضة العسكرية لتلك الاتفاقية والتي أعطت الذريعة للإسرائيليين لمزيد من ا لتعنت والعرقلة للحل ، وأضعف الموقف الفلسطيني بشكل عام ، وتعدت إلى المساس بالمحرمات والحرمات من الدماء والأعراض والشعب والقضية ، مما هو مرفوض دينياً و أخلاقياً وبكل المقاييس ، لكنها جنت من ثمارها عملياً ما جنت ، واستفادت مادياً ومعنوياً وسياسياً من آثار تلك الاتفاقية ، ونحن نرى الآن على سبيل المثال نتيجة ذلك محاولة سلخ غزة عن فلسطين لرؤية خاصة رأتها حماس الفصيل الأبرز المناوئ بمحاولة تفسيرها الخاص للسياسة والقضية من ناحية ، وحمل الناس على ذلك التفسير الخاص حملاً ، ولا نبعد عن الحقيقة إن قلنا بالقوة في بعض الأحيان وبالدعاية والصخب في الخطاب الديني والإعلامي في الأحيان الأخرى ، ودون أن تكترث لما أصاب الناس والقضية ويصيبهم ويصيبها مباشرة أو بالتسبب نتيجة هذا العمل مما أفقدها ويفقدها التأييد والنصرة التي كانت تلقاها ممن تبعها وحالفها أو خالفها على حد سواء ، ولولا المنافع المادية التي يتلقاها كثير من هؤلاء المؤيدين في هذه الظروف العصيبة لبدا ذلك أشد وضوحاً مما هو عليه الآن.
القنطرة المصرية:على أننا يجب أن لا نغفل الدور العربي المتكامل والذي مركزه القاهرة ، في هذا العام الذي تتولى فيه سوريا رئاسة القمة العربية التي اعتمدت المبادرة اليمنية أساساً متيناً للمصالحة وإنهاء الخلافات والنزاعات الفلسطينية، وأثرها الممتد على القضية الفلسطينية، إضافة إلى المشاركة القوية والثابتة للسياسة الأردنية، وهذا الجهد الجبار المبذول من اليمن وبلاد الخليج عموماً والمملكة العربية السعودية خصوصاً والتي يتجاوز تأثيرها الأبعاد السياسية والاقتصادية إلى البعد الديني باعتبارها مهبط الوحي وموئل الرسالة الإسلامية.
ومن واقع الاهتمام المصري المتجدد والمتجذر بفلسطين والفلسطينيين والفصائل الفلسطينية ، ومن باب الوزن الذي تحظي به مصر البلد العربي الكبير في المحيط العربي والإقليمي والدولي يجئ الفعل المصري السياسي المؤيد دولياً وعربياً وفلسطينياً ، كما أنه مشهود له بالرأي الحصيف والخبرة الطويلة بالعلاقات الدولية ، علاوة على الساعد المفتول العضلات والذي يحسب له حسابه في المنطقة ، يجيء هذا الفعل المصري ليخرج الفلسطينيين سلطةً وفصائل موافقة أو مشاققة وجميع الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية من وحل الصراعات الداخلية التي لا تقضي على فلسطين شعباً وقضية فقط بل وتفسح المجال رحباً للتدخلات والتداخلات الدولية المتعارضة والمتنافسة مما يجعل بلاد فلسطين وسائر البلاد العربية نهباً لأطماع الغرباء المتطلعين والمتربصين لالتهام هذه الكعكة الشهية ، ولو لم تتراجع حماس اليوم وليس غداً عن هذه السبيل المظلمة التي تتدهده فيها هي ومعها قسم كبير من الشعب طوعاً أوكرهاً فعما قريب لن تجد لها موطئاً مؤثراً كما تشتهي إن في ميدان السياسة وإن في غيرها على الساحة الفلسطينية ، لأنها وبهذا الأسلوب وبهذه العقلية لا ولن تملك القرار النهائي ، ولا الفعل الموصل إلى القرار النهائي في آخر المطاف لا بالانفراد ولا بالمشاركة .
ألا يا إخوتي في حماس والفصائل الفلسطينية كافة فلتستفيقوا من أحلام يقظتكم ، ولتخرجوا من حفرتكم العميقة التي سقطتم بالاختلاف والخصومات فيها ، ولتسمعوا فتستمعوا وتستجيبوا وعلى الفور لنداء رئيسكم وولي أمركم سيادة الرئيس محمود عباس باللقاء والتحاور الجاد والعملي لمصلحة الوطن الكبرى ، وهذه مصر مع إخوانها العرب قد قامت لانتشالكم من تلك الأوحال ، ونصبت القنطرة لتلاقيكم ووحدتكم ، وهذه مساعيها مع العرب للمصالحة الفلسطينية الوطنية وعودة الأمور السياسية والأمنية إلى نصابها وصوابها ومهنيتها ، بعيداً عن الحزبية و الفصائلبة والفئوية ، وإياكم أن تغضبوا الأخ الأكبر مصر ، وإن غضبت مصر غضبت العرب ، ففاجأتكم الأحداث بما لا تشتهون ، وقابلتكم بما لا تعرفون .. ولات حين مندم !!.
ملاحظة : هذا مقال كتبته في الخميس 20/شعبان /1429 هـ الموافق 21/8/ 2008 م وللعبرة أعيده اليوم للنشر بحرفه.
الشيخ ياسين الأسطل
الرئيس العام ورئيس مجلس الإدارة
المجلس العلمي للدعوة السلفية بفلسطين