لم تتغير قناعاتي إزاء ما يجري للقضية الفلسطينية عموما ومفاوضات ما يسمى بعملية السلام بين السلطة الفلسطينية الموقرة وحكومات تل أبيب المتعاقبة خاصة، فمذ بدأتُ بكتابة مقالاتي الخاصة بشأن الهم الفلسطيني، فإنني حرصت بإصرار شديد على وصف تلك المفاوضات ونعتها بالعبثية والعقيمة وأن "حملها" في رحم تلك المفاوضات كان كاذبا، هذا ولقد حذرت القيادة الفلسطينية من مغبة الانجرار خلف وهم إقامة الدولة الفلسطينية ضمن نهج تلك المفاوضات العقيمة ومسيرتها، بعيداً عن شرعية الجهاد والمقاومة التي كفلتها الشرائع السماوية وأقرها المجتمع الدولي، كما وأكدت مرارا وتكرارا دون ملل ولا كلل على منطق أن ما اخذ بالقوة فإنه لن يسترد إلا بالقوة ومن خلال تكاتف الجمع وتوحيد الطاقات ... لا بالتفاوض والجلوس المهين إلى مائدتها واستجداء الحل كما جرى ويجري الآن، فجلوسنا ونحن ضعفاء خائرو القوة إلى قوي طامع غدّار متغطرس أمر له مخاطره!!.
مسارات ودهاليز وأنفاق شتى دخلتها تلك المفاوضات العبثية العقيمة، كان شعار "حُسْنُ النية !!" والأمل الزائف المرجو بتحقيق حلم إقامة دولة فلسطين (ولو على جزء يسير من أرضها التاريخية) في آخر المطاف هو الصفة الغالبة لدى المفاوض الفلسطيني، فتارة رأينا تلك المفاوضات تجري بشكل مباشر وتارة أخرى بشكل غير مباشر، وتعثرت وتعطلت فتوقفت مرارا، ثم انطلقت تحت جنح الليل وبفعل ضغوط وإغراءات ووعود أمريكية لتستمر وتائرها بذات وجوه "حسنيّ النية" وذات السيناريو العبري وشروطه، دون أن تظهر في الأفق بارقة أمل بإمكانية الوصول إلى نهاية سعيدة لشعب غير سعيد، لكننا كنا نردد - بدافع الحرص والتنبيه والتحذير ليس إلا - على مسامع قيادة السلطة الفلسطينية الكرام ما كنا نؤمن به إيمانا قاطعا لا يتزحزح من آيات بينات من محكم قرآن مجيد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه :"وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" (البقرة: 120).
ها هي الأشهر التسعة تكاد أن تنقضي، وهي آخر فترة "حمل" وُعـِدَت بها قيادة السلطة الفلسطينية بانتظار ولادة "جنين" المفاوضات برعاية طبيب الحمل والولادة المراوغ والفاسد أمريكا، ولقد بشّرنا حينها من أن الجنين هذا سيكون اتفاقا نهائيا على تسوية كل الخلافات وإنهاء معاناة شعب فلسطين واكتحال عينه بدولته الفلسطينية الموعودة، ولقد فات قيادة السلطة الفلسطينية التي أضاعت – كعادتها - تسعة أشهر على حمل كاذب مكر بني صهيون وخداعهم، فها هو النتن ياهو يخرج إلينا في أواخر فترة أشهر الحمل الكاذب ليطالب بخطاب له أمام المؤتمر السنوي للجنة العلاقات الخارجية الأميركية- الإسرائيلية (آيباك) رئيس السلطة الفلسطينية باعتراف فلسطيني على "يهودية" كيانه الغاصب حيث قال نصا وبوقاحة شديدة وأقتبس: أيها الرئيس عباس، اعترف بالدولة اليهودية.. وقل للفلسطينيين أن يتخلوا عن وهْم إغراق (إسرائيل) باللاجئين"... انتهى الاقتباس، هذا كما وألقى النتن ياهو تبعات استمرار معاناة شعب فلسطين على عاتق السيد محمود عباس حين أضاف بخطابه ذاك قائلا وأقتبس نصا: "بالاعتراف بالدولة اليهودية، ستجعل من الواضح أنك مستعد تماماً لإنهاء الصراع"، في إشارة واضحة منه إلى المسألة الحساسة التي أصبحت نقطة مهمة في محادثات ما يسمى السلام المتعثرة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية ذات الكيل بمكيالين!!.
وفي ظل مطالبة النتن ياهو للسيد محمود عباس – رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية- بالاعتراف بيهودية كيان الأول الغاصب كي تسير المفاوضات نحو تحقيق حلم دولة فلسطين وعاصمتها القدس ... فإنني أتساءل بمرارة شديدة دونما استغراب: ما الذي تحقق لشعب فلسطين من وعود بعد اعتراف مجاني دون مقابل من منظمة التحرير الفلسطينية بدولة "إسرائيل"!؟، وما الذي تحقق لمسيرة ما يسمى بجهود السلام وديمومة واستمرار تلك المفاوضات العبثية المضحكة المبكية حين تم شطب الكفاح المسلح وكل ما يتعلق به من بنود الميثاق الوطني الفلسطيني في دورة المجلس الوطني الفلسطيني في غزة عام 1996!؟، وما الذي جناه أبناء فلسطين حين استبدل مصطلح "الصراع العربي الإسرائيلي" ليحل مكانه "النزاع الفلسطيني الإسرائيلي" ثم اختزل إلى صراع حول حقوق متنازع عليها!؟، وما الذي جناه الفلسطينيون حين اختزلت قضية فلسطين لتصبح صراعا بين السلطة وحماس!؟، ثم إلى مهاترات ومناكفات سياسية وفضائح يندى لها الجبين بين رئيس السلطة الفلسطينية وبين المدعو محمد دحلان!؟.
وأعود كرة أخرى متسائلاً ومحذرا شعبنا الفلسطيني وقيادة السلطة الفلسطينية ... بل وكل أمتنا العربية جمعاء من خطورة مطلب النتن ياهو: ألا يعني ذاك الاعتراف تسليما ورضوخا مهينا للأجندة الصهيونية المتمثلة بـإسقاط حق العودة، والتضييق على عرب 48 ومن ثم ترحيلهم عن ديارهم وأرضهم وتنازلاً عن تاريخهم هناك!؟، ثم ألا يعني ذاك الإعتراف الذي سعى من أجله الصهاينة طيلة عقود مضت إعترافا إسلاميا عربيا فلسطينيا بأن كل أرض فلسطين التاريخية لليهود، وأن لا حقوق للعرب والمسلمين فيها، وأن معارك صلاح الدين الأيوبي واسترداده للقدس من براثن الصليبيين الأوربيين إنما كانت عدوانا واغتصابا و"إرهابا" عربيا وإسلاميا وفق مصطلحات ومفاهيم هذا العصر!!؟.
ربما قد فات الجميع أن لذاك الاعتراف المشين تداعيات خطيرة جدا على مجمل تاريخنا الاسلامي وحاضرنا ومستقبل أجيالنا، لاسيما في ظل وجود ماكنة إعلامية صهيونية تملك من قوة وسطوة وخبرة ميدانية وتأثير على العالم الغربي بحيث تستثمر ذاك الاعتراف الفلسطيني الرسمي – لو تم فعلا - لتغيير حقائق الصراع وتزييفه وتجييره لصالح مشاريعهم وتطلعاتهم، فنكون بذلك قد ساهمنا دونما وعي وإدراك بخدمة الكيان الصهيوني من خلال:
1- توجيهنا طعنة نجلاء لتاريخنا الإسلامي والعربي من منطلق وصف إعلام يهود لفتوحاتنا الإسلامية العظيمة في عهد الفاروق عمر بن الخطاب "رضي الله عنه وأرضاه" لأرض المقدسات في فلسطين وتصويرها على أنها اغتصاب إسلامي عربي بغير وجه حق لأرض تعود ليهود!!، وكتحصيل حاصل، فإنها إدانة وتجريم ضمني لما قام به الفاتح صلاح الدين الأيوبي ووصفه من قبل إعلام الغرب ومراكز أبحاث يهود بالغازي والمحتل وأنه استلبها من يهود عنوة وقسراً ودون وجه حق!!.
2- أن وعد بلفور كان إعادة حق سليب ليهود من غاصب عربي فلسطيني!!.
3- أن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية كان باطلاً ودون وجه حق لاغتصاب أرض يهود!!، وكذا الحال بالنسبة للسلطة الوطنية الفلسطينية التي سعت منذ أوسلو حتى يومنا هذا لطمس حق يهود وتعطيل مسعاها في أقامة دولتهم الحضارية في أرض الميعاد!!.
4- شطب لكل تاريخ وسفر كل شهداء الثورة الفلسطينية وفصائل التحرير والمقاومة الذين تساقطوا طيلة فترة الصراع العربي الصهيوني!!.
تساؤلات أخيرة أوجهها لأصحاب الشأن الفلسطيني:
ألم يع شعب فلسطين حتى الآن زيف التسوية وعبثية المفاوضات وانتظار حلم تحقيق الدولة الفلسطينية!؟.
ألم يدرك بعد شعب فلسطين الكذبة الكبرى بدعم الولايات المتحدة الأمريكية لما يسمى بعملية السلام المزعومة وحلم تحقيق دولة فلسطين، فيما مضت أعوام وأعوام طويلة على تسوية زائفة جرت وقائعها في ظل عهود أربعة من رؤساء للولايات المتحدة الأمريكية (كلينتون، جورج بوش الأب، جورج بوش الإبن، ثم الأسمر أوباما) كانت من تداعياتها أن ترسخت أقدام الصهاينة في أرض فلسطين التاريخية وحل الدمار أرجاءها!؟.
ماذا سيكون موقف أبناء شعب فلسطين المذبوحين من الوريد إلى الوريد لو أن أحلامهم الوردية بإقامة دولتهم المستقلة تبخرت وأصبحت أضغاث أحلام !؟، ومتى سيحاسب أبناء فلسطين قيادة السلطة على تلك الوعود وطول فترة أنتظارها والأحلام الواهية المتبخرة!؟.
ليكن في معلوم الجميع، وعلى رأسهم شعب فلسطين الجريح وأولي أمرهم القسريين، بأن سقف مطالب يهود بالتنازل عن حقوقنا لا حد له، وإذا ما كانت دعوة حكومة النتن ياهو اليوم هي الاعتراف بيهودية كيانهم، فإنها تالله لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، فمسلسل هدر الحقوق قد ابتدأ منذ أول يوم لأوسلو، حيث اعترف الرئيس الراحل أبي عمار بالكيان الصهيوني دون أن ينال حقا واحداً من حقوق شعب فلسطين، ثم استمر هدر الحقوق والتنازل بالتصاعد حتى وصل الحال بنا اليوم مطالبة حكومة يهود في تل أبيب منا بالاعتراف بيهودية الكيان الصهيوني كشرط لاستمرار تلك المفاوضات العبثية والتي لن تؤدي إلى أي نتيجة مهما قدمنا من تنازلات!!
إن حكومة تل أبيب لن تفي بوعدها حتى تبتلع كامل أرض فلسطين وما جاورها، ومن يظن أن حكومة تل أبيب ستفي بوعدها إذا ما تم الاعتراف بيهودية كيانها، فإنني أصرخ وأقول: لا والله وتالله وبالله، فهناك مطالب وشروط صهيونية أخرى سيأتي دورها – وفي جعبتهم الكثير من الدهاء والمكر-، فقد يطالبون بعدها بأن تعترف كل فصائل وقوى فلسطين بهم، وما يعنيه ذاك من حتمية رفض القوى الوطنية والشريفة الصامدة غير المفرطة بعد والتي لا تتوافق رؤاها وما تتبناه السلطة الفلسطينية، فتوصف تلك القوى آنذاك بالقوى الإرهابية – كما يحدث الآن- ليبدأ سيناريو القتال الفصائلي وهدر الدم الفلسطيني - المهدور المباح أساسا ومنذ نكبة 48-، بعدها، وما إن يتحقق ليهود سفك الدم الفلسطيني والتناحر والاقتتال الفلسطيني الفلسطيني واندحار القوى الوطنية الرافضة لنهج الاستسلام والخنوع، حتى سيخرج علينا رئيس وزراء يهود بمطلب آخر مفاده أن دولة فلسطين لن تعلن ما لم يعلن الشعب العربي بنفسه - من المحيط حتى الخليج- اعترافه بدولة اسرائيل اليهودية، وإقامة كل أوجه التطبيع معها!!.
خلاصة القول وزبدة الكلام النافع، فإنني أقول مؤمنا موقنا باستحالة رضوخ " إسرائيل " لتحقيق السلام معها الآن، واستحالة موافقتها على إقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة الكاملة بعاصمتها القدس الشريف وفق ظروف المشهد العربي الهزيل المتداعي المتهالك عموماً والمشهد الفلسطيني الممزق خاصة!!، غير أن عزائي الوحيد في الأمر كله، علمي ويقيني بأن يهود سَيـُدْحَرون، وأن فلسطين - بقدسها ومدنها وقراها وبحرها ونهرها- ستكون بإذن الله تعالى قد تحررت، لا بنهج المفاوضات العبثية العقيمة، ولكن بعد خروج الدجال ...في آخر الزمان!!.
سماك العبوشي
[email protected]
20 آذار (مارس) 2014