كانت مدينة القدس قطب الرحى في منطقة بلاد الشام، شكلت مركزاً اقتصادياً واجتماعيا لا مثيل له، حيث كانت مقصد الحجاج من مسلمين ومسيحيين، وكل باحث عن التراث والحضارة والتاريخ، كان ليجد في القدس العربية ملاذ يروي ظمأه، ولكن نتيجة للاحتلال الاسرائيلي للمدينة عام 1967 وسياساته التعسفية فيها، ومخططاته المتتالية لتهويد المدينة وطمس معالمها، اضافة لوضع العراقيل للوصول اليها، ناهيك عن ما تمارسه من سرقة وتزوير وهدم واستيطان ... عوامل أدت جميعها لتغيير مشهد القدس بشكل عام، فأضحى لا يحاكي مهبط الانبياء والمرسلين، وباتت القدس فقيرة ضعيفة في كافة المجالات، تعاني تدهور اقتصادي وسياسي واجتماعي وأمني...فالاحتلال الاسرائيلي دمر حضارتها وخرب حيويتها.
منذ أن قامت اسرائيل باحتلال الضفة الغربية بما فيها مدينة القدس عام 1967، واجهت المدينة مشكلات عديدة وتحديات مصيرية، كان أولها الممارسات الاسرائيلية الممنهجة والمخططة تجاه المدينة المقدسة، فقامت اسرائيل بضم المدينة لكيانها وطبقت قوانينها عليها، وحلت مجلس أمانة القدس العربية، وألغت القوانين الأردنية التي كانت مطبقة في المدينة انذاك، وأغلقت المحاكم والبنوك العربية وفرضت منهاج التعليم الاسرائيلي، وطبقت قانون أملاك الغائبين والذي أدى لفقدان الكثيرين من حقهم في عقاراتهم وأملاكهم، هادفة من ذلك تهويد المدينة وتقليل عدد السكان الفلسطينيين الى أقل عدد ممكن من خلال الاخلال بالتوازن الديمغرافي لصالح اليهود، وقامت بالتوسع في هدم البيوت والورش والمصانع وسحب الهويات والتضييق الأمني واقامة الحواجز العسكرية لفصل التجمعات السكانية الفلسطينية بعضها عن بعض.
ونتيجة للسياسات والإجراءات الإسرائيلية ضد المدينة وسكانها، بدأ دور المدينة ومكانتها الاقتصادية يتراجع بشكل مستمر، فدخلت القطاعات الاقتصادية المختلفة: السياحية – الصناعية – التجارية والخدماتية في أزمات متواصلة. حيث ساهم الحصار والإغلاق المتواصلان للمدينة والمفروضان عليها منذ عشرات السنوات، بركود تجاري واقتصادي للمدينة وإفلاس العديد من المنشآت، وإغلاق مئات المحال التجارية، وهجرة الكثير من المؤسسات والمنشآت الاقتصادية والتجارية الى خارج حدود المدينة وتحديداً الى مدينتي رام الله وبيت لحم والضواحي.
ومن العوامل التي أدت الى تدهور الاوضاع الاقتصادية في القدس عزوف القطاع الخاص عن الاستثمار في القدس عدا عن بعض المبادرات والجهود الفردية المقدرة، حيث أجبر عدد كبير من المستثمرين وأصحاب المصانع والفنادق والورش والمحلات التجارية والتي تشكل عصب الاقتصاد في المدينة من البحث عن أماكن آمنة، لاستثماراتهم خارج القدس أو على أطرافها هرباً من سياسات التضييق والاستهداف من خلال الممارسات الممنهجة والضرائب الباهظة التي فرضتها عليهم سلطات الاحتلال . فقد تناغمت سياسة إسرائيل الاقتصادية في القدس مع سياستها في مجالات القانون والاستيطان وبناء الجدار حيث عملت ومنذ بداية احتلالها للمدينة على تفريغ المدينة من الاقتصاد الفلسطيني، وفك ارتباطها اقتصادياً مع الضفة الغربية، وربطها بالاقتصاد الاسرائيلي بهدف إجبار الفلسطينيين على الرحيل الطوعي من المدينة وفق سياسة "الجذب المعاكس"، بمنع إدخال المنتجات الزراعية والصناعية من والى القدس، واعتماد الشيكل الاسرائيلي كعملة تداول في الضفة الغربية وقطاع غزة بدلاً من الدينار الاردني، واغلاق البنوك الاردنية وفرض الضرائب الباهظة على البضائع العربية التي تحتاجها القدس، وحاصرت القطاع السياحي ومنعت القطاع التجاري من العمل مع محيطه، ونتيجة لتلك السياسة ضربت البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المدينة، الأمر الذي أدى إلى تراجع مكانتها الاقتصادية بشكل متواصل، وأدخلت مرافقها الاقتصادية في أزمات متواصلة، ونتيجة للحصار المفروض عليها منذ الانتفاضتين الاولى والثانية، أصبحت المدينة تعاني من ركود اقتصادي كبير ما أدى إلى إفلاس العديد من الشركات والمنشآت الاقتصادية، أما المؤسسات والشركات الاقتصادية التي بقيت في القدس فقد أغلقت سلطات الاحتلال بعضها، وطلبت من البعض الآخر تسجيل نفسها كمؤسسات وشركات اسرائيلية.
ويعتبر جدار الفصل العنصري العازل الذي تبنيه إسرائيل في عمق الضفة الغربية وفي محيط مدينة القدس المحتلة من أهم العوامل التي تؤثر سلباً على اقتصاد المدينة المقدسة، فالمتتبع لمراحل بناء هذا الجدار والذي يتم بخطوات مدروسة جيداً من الجانب الاسرائيلي، لا بد وأن يعي بشكلٍ واضح الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية لدى اسرائيل والتي تقود في النهاية إلى إخراج مدينة القدس من ارتباطها الطبيعي ببقية الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، والذي يجعلها مفتوحة فقط نحو الغرب، أي نحو "إسرائيل .
وأكد مجلس التجارة والتنمية التابع للأمم المتحدة "الأونكتاد"، في تقريره السنوي الصادر في جنيف أن الاقتصاد الفلسطيني بالقدس الشرقية يواجه حالة من العزلة والقيود المتزايدة، وأنه لم يعد لديه الآن إلا أقل من نصف حجم التأثير الاقتصادي الذي كان له فى عام 1993، وذلك نتيجة البيئة الاقتصادية المثبطة ومعدلات الفقر المرتفعة وتراجع قطاعي الصناعة والخدمات، فضلاً عن القيود التى تحد من الاستثمار. فاقتصاد القدس الشرقية كان يشكل ما نسبته 15% من الاقتصاد الفلسطيني قبل التوقيع على اتفاقيات أوسلو عام 1993، لافتاً إلى أن هذه النسبة تقلصت لتبلغ وفقاً للتقديرات إلى حوالى 7% فقط في السنوات الأخيرة، وان الناتج المحلي الإجمالي للقدس الشرقية، والذي بلغ فى عام 2010 حوالى 600 مليون دولار قد زاد بشكل طفيف، إلا أن حجمه النسبي قد انخفض، نظراً لتراجع النمو في القدس الشرقية عن مواكبة النمو في بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة. وأن معدل فقر الأسر الفلسطينية فى القدس ارتفع من 68% عام 2009إلى 77%، وفي المقابل بلغت نسبة الأسر في القدس الشرقية والتي تصنف كأسر فقيرة 25%.
ويعتبر الفقر من الاسباب الرئيسية لتردي الاوضاع الاقتصادية في المدينة المقدسة والذي يأتي لنتيجة من العوامل وهي:
أ.جدار الفصل والعزل عن الضفّة الغربيّة.
ب.سوق عمالة معزول وهزيل.
ج.إهمال جهاز التعليم وعوائق أمام التحصيل العلميّ والتأهيل المهنيّ.
د.صعوبة انخراط النساء في سوق العمل.
ه.تشغيل الفلسطينيّين في غرب القدس.
و.سحب الإقامة الدائمة ومنح مكانة مؤقّتة.
الوضع الذي أصبح عليه الاقتصاد الفلسطيني في القدس الشرقية من تدهور يدعو إلى:
- وضع خطة اقتصادية شاملة للقدس الشرقية.
- مطالبة المجتمع الدولي الزام اسرائيل بتحمل مسؤولياتها تجاه االقدس الشرقية كونها مدينة محتلة.
- رصد استثمارات من قبل القطاعين العام والخاص الفلسطينيين، ودعم من الجهات المانحة، وذلك للتصدى للتحديات الاجتماعية والاقتصادية الرئيسية في القدس الشرقية.
- تحسين الحماية والتنمية.
- تحفيز التقدم وحماية حقوق الإنسان.
- دعم التلاحم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للفلسطينيين المقدسيين، والعمل على دعم جوهر اقتصادهم الذي يتمثل في المدينة القديمة.