مسامير وأزاهير 328 ... أما آن لهذا الشعب أن يستريح!!؟.

بقلم: سماك العبوشي

استهلال ...

جاء في مختار الصِحاح عن مفردة (الابتلاء): البلية والبَلْوى والبَلاَءُ واحد، والجمع البَلاَيا، وبَلاَهُ جـَرّبه واختبره، وبلاه الله إختبره يبلوه بَلاَءً حسنا وابْتَلاَهُ أيضا، أما في دروس القرآن الكريم فقد ورد أن الابتلاء يأتي على قدر الإيمان، فكلما قوي إيمان العبد اشتد ابتلاؤه، ولأن الأنبياء أقوى المؤمنين إيماناً كان بلاؤهم شديداً، وفي الحديث عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى العبد على حسب دينه، هذا كما قيل في دروس وعظات القرآن الكريم أن الابتلاء دليل على حب الله لمن ابتلاه، فعن أنس بن مالك عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أنه قال: عِظم الجزاء، مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.

هكذا إذن يفهم (الابتلاء)، على أنه امتحان واختبار على الشدائد والنكبات والمحن، فمن كان صابرا قوي الشكيمة مؤمنا بقدراته فإنه بمشيئة الله تعالى سيتجاوز ذاك (الابتلاء) وينفضه عن كاهله، ونحن المسلمين نؤمن إيماناً كاملاً بأن الله سبحانه وتعالى حين يبتلي عبدا من عباده فإنه يختبره ليرى مدى صبره وجـَلـَده وقوة إيمانه، فإن نجح العبد في ذلك رفع الله عنه الغـُمّة و(الابتلاء) وفاز فوزا عظيما، و(الابتلاء) لعمري صنوف وأنواع، فمنه على سبيل المثال لا الحصر: الجوع والخوف والفقر والجهل والمرض، وفي ذاك قال الله عز وعلا في محكم آياته: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ..."(البقرة:155)، ويندرج تحت لواء (الابتلاء) أيضا الاحتلال الأجنبي، ولا أغالي لو قلت بأن أخطر أنواع (الابتلاء) قاطبة هو الوقوع تحت سطوة حاكم جائر ظالم فاقد للضمير والوجدان، حاكم لايفكر إلا بكرسيه وامتيازاته وجاهه!!.

لقد ابتلى الله سبحانه وتعالى شعب فلسطين مرتين، على امتداد عقود من سنوات عجاف جرت خلالها أحداث وخطوب جسام بين مد وجزر وتداخلت في أحيان كثيرة:

الابتلاء الأول ... تمثل بوعد بلفور المشؤوم الذي حلّ في لحظة قاهرة خارجة عن إرادة شعب فلسطين مطلع القرن المنصرم إبان ضعف الأمة العربية ووهنها، فكان أن جرّ على أجدادنا وآبائنا ما جرّه من ويلات ونكبات كان أولها صدور قرار التقسيم سيء الصيت، ثم تلاه إقامة الكيان الصهيوني الغاصب على معظم أرض فلسطين التاريخية بقرار أممي جائر ظالم، فراح ذاك الكيان الغاصب يمارس التهجير والتشريد والتنكيل وقضم الأراضي، ومازال وقع ذاك الوعد البغيض وتداعياته على شعب فلسطين حتى يومنا هذا، ولن أستفيض بذكر تداعيات (الابتلاء) الأول، فذاك أمر بات يعلمه القاصي والداني، ولمن أراد أن يستزيد معرفة فما عليه والحالة هذه إلا البحث في مجلدات ودراسات وتقارير ورقية كتبت أو من خلال الإبحار في عالم الإنترنت!!.

الابتلاء الثاني ... ومما زاد من معاناة شعب فلسطين وزاد الطين بـِلـّة عليهم ما حلّ بهم من ظلم وقلة حيلة وخذلان وسوء تدبير ذوي القربى من رعاة الشأن الفلسطيني ذاته، فتفنن هؤلاء في قهر إرادة أبناء شعبهم الفلسطيني وكسر توقهم لنيل حريتهم وكرامتهم، وأدخلوه في أنفاق ودهاليز لا أول لها ولا آخر تحت ذريعة تحقيق السلام والحفاظ على مكتسباته وإقامة الدولة الفلسطينية الموعودة، ومما زاد من الطين بلة فوق بلة قصر نظر ذوي قربانا من رعاة الشأن الفلسطيني وضيق صدرهم تجاه اختلافات وجهات النظر الفلسطينية في كيفية التصدي للمشروع الصهيوني، فكان أن دبّ الخلاف وتشرذم الصف الوطني الفلسطيني، مما أتاح الفرصة لحكومات تل أبيب المتعاقبة لاستثمار ذاك المشهد والواقع الفلسطيني المتردي في ترسيخ أقدامهم والتوسع في إقامة مستوطناتهم وحملات تهويد علنية ومحمومة لمقدساتنا العربية والإسلامية، وما الدعوة أخيرا للاعتراف بيهودية كيانهم الغاصب كشرط مسبق لاستمرار السير في نفق المفاوضات إلا نتاجا لهذا الصراع الفلسطيني الفلسطيني وعدم وحدة الصف!!.

قد نجد العذر لأجدادنا وآبائنا حين ابتلوا ( الابتلاء الأول) المتمثل بوعد بلفور المشؤوم، فلقد كانوا آنذاك – ككل الشعب العربي – يرزحون تحت هيمنة عثمانية بدأ نجمها بالأفول، وبروز دور بريطانيا كقوة عظمى سعت حثيثا للسيطرة على مقدرات أمتنا العربية ومنها فلسطين تحديدا، كما أن وعد بلفور قد دبر بليل وتحت جنح الظلام وخلف الكواليس في ظل غياب قيادات فلسطينية وطنية آنذاك، إلا أنه ورغم ذلك كله فقد أدى أجدادنا وآباؤنا دورهم الشرعي والوطني بالتصدي لما قاسَوه من (ابتلاء) الانتداب البريطاني وما تلاه من (ابتلاء) احتلال صهيوني بغيض، وصبروا وجاهدوا ووقفوا كالطود الشامخ أمام تطلعات الاحتلال وأحلامه، واضعين نصب أعينهم في تصديهم لمشاريع المحتل قول البارئ عز وجل في محكم آياته: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ" ( محمد: 31).

لقد أثبت أجدادنا وآباؤنا جدارتهم وتصميمهم على تجاوز محنة وعد بلفور والانتداب البريطاني البغيض وقرار التقسيم، ورغم قلة إمكانياتهم التعبوية والمادية فإنهم لم يركعوا ولم يستسلموا، فكانت ثورة القسام 1936 وما تلتها من ثورات شعبية سبقت أو زامنت نكبة 48 كان آخرها محاربة عصابات صهيون والذود عن مدن الضفة وقراها عام 1948، ثم ثورة عظيمة قادتها "فتح العاصفة" في الفاتح من يناير 1965 وما تلاها من تأسيس فصائل ثورية فلسطينية بمسميات أخرى أذاقت جميعها العدو الصهيوني الويل والثبور وجعلته يعيد قراءة المشهد الفلسطيني ويعيد رسم رسم خططه من جديد لاسيما في أعقاب معركة الكرامة الخالدة 1968، ثم تفجرت غضبة جماهير فلسطين في الانتفاضة الأولى والثانية استعملت فيها الحجارة والعصي فأحيت الامال مجددا وبرهنت بأن شعبنا حيّ لا يموت، فإذا ما كان الأجداد والآباء قد أدوا دورهم البطولي المشرف وتصدوا لمشاريع الاستحواذ والهيمنة، فإن التساؤل الكبير والمُلـِّح يطرح نفسه: متى سيتخطى الأحفاد مرحلة (الابتلاء الثاني)، ويزيحون عن كاهلهم أعباء سياسات وتخبط وقلة حيلة قادة وأولي أمر آمنوا بنهج تسوية مقيتة فاشلة عقيمة حجمت قدرات شعبنا وعطلت لغة الجهاد والكفاح، قادة وأولي أمر أثبتوا وبامتياز فشلهم المريع وقلة حيلتهم وانشغالهم في حزبية ضيقة مقيتة وفصائلية كريهة عنوانها الأبرز الإقصاء والتهميش، فيما خلا الجو تماما لقوات الاحتلال للهيمنة الكاملة على مقدرات الضفة الغربية ومقدسات فلسطين الإسلامية!!!.

متى!!؟.