سنين طوال والقيادة الفلسطينية تعتبر المفاوضات خيارها الوحيد، بدا ذلك من مفاوضات مدريد في العام 1992 ، وتكرس يعد توقيع اتفاق إعلان المبادئ في أوسلو في العام 1993، لكن يبقى السؤال ما هو الحصاد من تلك المفاوضات ، وخاصة ان ليس لدى كيان العدو مشروع سلام، هذا يتضح من خلال الاطلاع على مواقف قادة كبار في دولة الكيان الصهيوني.
واليوم بعد عشرات الجولات من المفاوضات الثنائية المباشر إلا أن شيئا لم يتحقق، ولم تتوصل المفاوضات إلى شيء يذكر، ولم تقم الدولة الفلسطينية كما كان مفترضا ، ثم جاء كيري حاملا مشروع اطاره الانتقالي الهادف لتصفية القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني مقابل اعتراف بيهودية الدولة او الوطن القومي لليهود ، الأمر الذي جعل الشعب الفلسطيني يفقد ثقته بالمفاوضات، ويدعو الى انتفاضة شعبية ثالثة .
جميع الاطراف تعلم أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون وسيطا نزيها في الصراع العربي الصهيوني وانها طرف منحاز الى جانب شريكها الاستراتيجي الكيان الصهيوني، لذلك فإن البنود السرية لخطة كيري تم تسريبها الى الشارع العربي والشارع الصهيوني لجس نبض ردود الفعل من اجل دراسة كيفية تطبيقها في المرحلة القادمة، وذلك لأنها قضايا هامة جدا وتمريرها في المنطقة ليس سهلا.
ويمكن القول ان الرئيس محمود عباس بتوقيعه على الانضمام الى خمسة عشرة هيئة دولية قد تحرر من الضغط الامريكي ااصهيوني ، واستجب لارادة الشعب الفلسطيني الرافض للمفاوضات ولخطة كيري التي تسعى لتصفية القضية الفلسطينية، ولكن يبقى الكثير من التساؤلات لماذا هذا الاصرار على المضي قدما في هذه المفاوضات ، حيث لم تعطي الولايات المتحدة الأميركية ولو إشارة عادلة عن قضية الشعب الفلسطيني، فيما هي تتظاهر أمام الإعلام عكس ما تنفذ أو تختبيء وراء الكلمات المعسولة، في الوقت الذي مازالت على موقفها منذ نكبة الشعب الفلسطيني التي تجاوزت الخمسة والستين عاما.
ومن هنا نقول اليس ما يفعله وزير الخارجية الأميركي جون كيري سوى ملء فراغ في العملية الافتراضية بين إسرائيل والفلسطينيين، ففي الوقت الذي يحتاج الفلسطيني الى حماية، نراه مرميا في العراء، وعندما يحتاج للحديث الحقيقي عن حقوقه، نرى الاميركي متلحفا بالموقف الاسرائيلي وكأنه يعطي للاغتصاب منطقا، وعند الحاجة للحديث عن الدولتين، تصبح المستوطنات مشكلة المشاكل، اذ يقدم فيها الاسرائيلي فاتورة كاذبة رغم أنها تتجاوز الآلاف ليقول إنه تنازل عنها، فنرى الرقم لايتجاوز العشرة او العشرين على أبعد تقدير.
بتنا نعرف ان اي عودة عن قرار الانضمام الى الهيئات الدولية ، هو خضوع للامريكي وهذا لم يعد يتحمل التكاذب، اذ لاجدية في الموقف الأميركي الذي يضغط على الفلسطيني الضحية، ويفلت الجلاد من قبضة العدالة، يحاول ان يقتل القتيل، فيما القاتل طليقا، تلك النظرة الأحادية التي لا شريعة فيها ولا قانون ولا حق انساني ولا ضمير، قد طال أمدها وامتد بها العمر دون نتيجة، وهي خطة صهيونية يراد من خلالها تمويت الحقوق رويدا رويدا وبعث الملل لدى الفلسطيني المفاوض والمسؤول عن حقوق شعبه، لكن ذلك لن يتحقق، فما زال الوقت ايضا ملك الفلسطيني الذي يصارع على جبهات متعددة منها الوقت ومنها الذهنية الغارقة في العلاقة المتوحشة التي يبديها الاسرائيلي والاميركي، ومنها تسميم الأجواء بالقول بان الفلسطيني هو من يعاكس المحاولات الجادة للحل، والفلسطيني في كل الحالات متمسك بحقه ولن يحيد عنه ابدا.
ولهذا نرى ان البعض الفلسطيني لا يريد بندقية بعد اليوم، ولكن هذا البعض ليس الشعب الفلسطيني وليس الكل الفلسطيني ، لان من يتخلى عن حق من حقوق الشعب الفلسطيني وهو حقه في امتشاق السلاح من اجل استرجاع أرضه حسب ما نصت عليه المواثيق الدولية، فصحيح الجميع اجمع على اعطاء فرصة للمفاوضات ولكن ليست على حساب المقاومة ، فمناضلي الشعب الفلسطيني ليسوا عاجزين عن العودة الى البندقية اذا ما استدعت الحاجة، واذا ما ظل الاسرائيلي على موقفه الرافض لأية تسوية، فكفى الضفة الغربية التي تحتل المستوطنات بحيث لم تعد موحدة لامن داخلها ولاعلى جوانبها ولا بين مدنها، حتى يمكن القول إن رام الله ذاتها باتت تحت الخطر الشديد اذا ما اعتبرنا ان المستوطنات غول سوف يأكل أخضر الضفة ويابسها.
لقد استغلت إسرائيل المفاوضات بشكل خطير، وضاعفت من حجم الأراضي المصادرة وعدد المستوطنات والمستوطنين، وفق خطة ممنهجة لم تتوقف ولم تتأثر بالمفاوضات ، وأقدمت إسرائيل على إقامة جدار الفصل العنصري ( جدار الضم والتوسع الاستيطاني )، والادعاء انه جدار امني، لكن الحقيقة اتضحت، وظهر انه جدار ذو أهداف سياسية، يمثل حلقة كبيرة من حلقات نهب الأرض الفلسطينية وثرواتها المائية، ويعمل على تقطيع أوصالها وتحويلها إلى جزر ومعازل، لا يمكن أن تكون قابلة لإقامة دولة فلسطينية موحدة وذات سيادة.
إذا كان الأميركي يعتقد أن اللعب على الوقت مصلحة إسرائيلية وهو الهدية التي يقدمها له في المناسبات من أجل تمرير مشاريعه الاستيطانية وإبعاده تدريجيا عن حقوق الشعب الفلسطيني فهو واهم ، صحيح ان القيادة الفلسطينية لن تقبل بالتنازل عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، لكنها ايضا، ملزمة بان تقدم لهذا الشعب السبب الذي من أجله أعطاها الثقة وإلا فإن الفلسطينيين مضطرون لركوب الصعاب كما فعلوها ولهم كل الحق في ذلك، وسيظل الفلسطينيون يرددون الجملة الشهيرة ” إنه ما ضاع حق وراءه مطالب”.
إن إدراك القيادة الفلسطينية بان حكومة الاحتلال تماطل وهي تريد اطالة عمر المفاوضات لكسب الوقت لإتمام مشروعها الاستيطاني في نهب ما تبقى من الأرض الفلسطينية قد دفع القيادة الفلسطينية للمبادرة بهجوم سياسي بالانضواء في المؤسسات الدولية.
إن ثبات موقف القيادة الفلسطينية يعتمد بالأساس على قدرتها على تحمل الضغوط الإسرائيلية والأمريكية والعربية، وهي ضغوط متنوعة الأشكال، وهذا الصمود لن يستمر إلا إذا حصنت القيادة جبهتها الداخلية بإنهاء الانقسام وإعادة الوحدة الوطنية، وكذلك بقدرتها على تعزيز ثقة الشعب بها، والتفافه حولها من خلال الاهتمام بأوضاع الجماهير المعيشية، وتامين الدعم الكافي سياسيا وماديا للمقاومة الشعبية، فهل تفعل القيادة ذلك وتواصل الصمود على هذا الموقف الذي يحظى بإجماع فلسطيني واسع.
بعد كل ذلك، أليس هناك من نهاية لهذا المسار المدمر والكارثي للقضية الفلسطينية، ألم يقتنع المراهنون على خيار المفاوضات، بأن رهانهم كان وهما وسرابا، وأن المقاومة الوطنية بكافة اشكالها هي السلاح الأمضى والأقوى لاستعادة الأرض والحقوق والحفاظ على عروبة فلسطين، وأن هذه الحقيقة هي التي أكدتها تجارب الشعوب الظافرة التي قاومت المحتلين.
ما صدر حتى اللحظة من مواقف وتصريحات، تؤكد على حجم المأزق الذي وصل اليه هذا النهج، وان التوجه الى المؤسسات الدولية كرد فعل عن ما اسفرت عنه المفاوضات من فشل، قد تكون خطوة غير كاملة ، ومن هنا نتخوف ان تكون هنالك مناورة من اجل العودة الى المفاوضات بشروط افضل او من اجل تحسين وجهها امام المجتمع الفلسطيني وقاعدتها الجماهيرية نتيجة الفشل الذي منيت به برهانها على المفاوضات، كما ان الانضمام الى الشرعية الدولية ومؤسساتها ومطالبتها بمحاكمة الكيان الصهيوني على جرائمه كانت مطلبا فلسطينيا سابقا، الا ان القيادة الفلسطينية كانت بوادٍ وشعبنا وقواه الحية بوادٍ اخر.
ختاما : هل تم استخلاص العبر من تجارب المفاوضات على مدار ربع قرن تقريبا، فالحياة عند الشعب الفلسطيني ليست مفاوضات، وانما الحياة مقاومة ونضال من اجل ان تسود العدالة والحرية، وان يمارس الشعب الفلسطيني حقه بالعودة الى ديارة التي شرد منها بالقوة، واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل التراب الفلسطيني وعاصمتها القدس.
كاتب سياسي