حقا بأنفسنا أشغلونا! صنعوا مِنا عدوَّاً، ونشروا بيننا الكراهيةَ والتناحُرَ والخلافَ والانقسام, غابوا عن المَشهدِ تماماً، فلم نعد نرى وجوهَهم، ولم نعُدْ نرى حبيباً إلا منهم، و لا عدوَّاً إلا فينا! تمزّقت أُسرُنا وأبناؤنا، حتى في البيتِ الواحدِ؛ أصبح الأبُ خصماً للابنِ! والابنُ مخالفاً للأبِ، ومختلفاً معه! باعوا لنا الداءَ، وسوَّقوا لنا وَهْمَ الدواءِ, أصبحنا أرضاً مفتوحةً لأسلحتِهم ولصواريخِهم، ومرتعاً لتجاربِهم، حتى الأسرى في السجونِ باتوا فئرانَ تجارِب, كانوا أعداءً للأُمةِ العربيةِ والإسلاميةِ، مغتصبين للأرضِ، محتلّين قتلةً ومجرمينَ، وللعِرضِ مُهدِرين، عجباً أصبحوا اليومَ في نظرِ الغالبيةِ من دُولِنا العربيةِ أصدقاءَ حميمين, وخرجنا نحن من قاعدةِ البنيانِ المرصوصِ؛ إلى شفا جرُفٍ هارٍ؛ ليس بيننا وبين السقوطِ في النارِ سِوى الانهيار !!
فالقدسُ تلك المدينة المغتصبةُ؛ منذ ما يزيدُ عن عقودٍ سِتة، وأقصاها الذي هو أولى قبلةِ المسلمين؛ لا يزالُ أسيراً يئِنُّ موجوعاً، بعدما كانت القدس والأقصى قضيةَ أُمةٍ واحدةٍ، وكان لهذه الأمة عدوٌ واحد، ووطنٌ عربيٌ كبير واحدٌ، فأضحى الوطنُ العربيُ الكبيرُ غُثاءً، بعدَ أنْ كُنا على قلبِ رجلٍ واحدٍ، أو هكذا ظننّا! لكنّ خُبثَ المحتلِّ ومَكرَه وكيدَه؛ أسقَطنا في ما أسموه سلام! وهو عن السلامِ بعيدٌ بُعدَ الشمس عن الأرض! لم نخرجْ يوماً عن دائرةِ استهدافِهم، فأصبحنا نقتلُ بسلاحِهم، ونداوي جراحَنا بدوائهم، وأصبحتْ عقولنا يستوطنُها الجهلُ، كما استوطنوا هم أراضينا، استبدلوا ثقافتَنا ولغتَنا وأرضنا؛ فأصبحنا بين فكَّيهم لقمةً سائغةً سهلةً بفُرقتِنا، فيأكلونَ منا ما يشاءونَ، ويلفِظون منا ما يريدون، وضاعت قضيتُنا، ولم يعدْ لها في قلوبِ العربِ والمسلمينَ من ذِكرٍ؛ إلاّ من رحمَ ربي من الشعوبِ المغلوبةِ على أمرِها !!
سقطَ الأقصى! والقدسُ باتتْ أسيرةً بين مطرقةِ الاحتلالِ وسَندانِ التخاذلِ! الجهلِ ينهشُ في عقولِنا، وفيما بيننا نتناحرُ، ونعادي بعضُنا بعضاً؛ بلا خجلٍ ولا وازعٍ يردعُنا!
متى تفيقُ الأمة من غفوتِها التي طالت؟ أم أننا ننتظرُ حتى يطيحَ التاريخُ بنا، وبثقافتنا وحضارتِنا... متى نفيقُ من غفلتِنا؟ أننتظرُ أنْ نُقذفَ بنارٍ لا تُبقي ولا تذَر؟!!
اليوم تزيدُ المعاناةُ للقدسِ وأقصاها الأسير... اليوم تُقتحمُ أسوارُ الأقصى، ويُعتدَى على قداستِه- ككُلِ يومٍ_ فقد استمرأَ الاحتلالُ ومستوطنوه هذه الاقتحاماتِ؛ يومَ غاب العمقُ العربي عنا، يومَ انقسمْنا... وكلٌ أصبح يمضي في طريق.
هيكلٌ مزعومٌ رمزي يضعُه الاحتلال في باحات الأقصى، ليس من قبيل الصُدفِ ،بل بتخطيطٍ استراتيجيٍّ لتنفيذِ مخطَّطٍ ماكرٍ؛ يقضي بهدمِ المسجدِ الأقصى، وبناءِ هيكلهم المزعوم!!
إنه شرُّ الاحتلالِ الذي ينتظرُ لحظاتٍ؛ يمضي خلالَها بتنفيذِ مخطّطاتِه التي يجنِّدُ لها كلَّ ما لديه من إمكاناتٍ، حينما يتزايدُ توريطُ الحكامِ العربِ في براثنِ الاحتلالِ؛ ليتجنّبَ منهم أيَّ ردِّ فعلٍ، وإنْ كان إعلامياً، لينقَضُوا على الأقصى، وينهشوا ما تبقّى منه!!
سقطَتْ المفاوضاتُ الهزيلةُ عبرَ عَقدينِ من الزمنِ، وسقطَ معها وَهمَ ما سمَّوهُ "سلاماً" حينما استطاعوا أنْ يُحيِّدوا فصيلاً فلسطينياً كبيراً، ويُسقِطوا من يدِه سلاحَه! لكنهم أبداً ما حمَلوا غصنَ زيتونٍ، فهم لا يعيشون ودولتَهم المزعومة إلاّ على القتلِ والدماءِ ، وعلى الهدمِ والحروبِ...هذا هو دَيدنُهم وسياسةُ بقاءِ دولتِهم المزعومة.
عبَثوا بالعقولِ... وأقنعوهم بالانقسامِ وأهميتِه لتمريرِ اتفاقِ سلامٍ مزعومٍ، فما كان منهم سِوى الاستفرادِ بغزةَ ومقاومتِها، بعدما حيَّدوا الضفةَ منِ الصراعِ، ولجَموا مقاومتَها بما سمَّوهُ "التنسيقَ الأمني" وحاصَروا غزة، وشنّوا عليها الحربَ تِلوَ الحربِ، وقتلوا... سفكوا الدماءَ، هدموا البيوتَ على رؤوسِ الأطفالِ والنساءِ، حتى المساجد لم تسلَمْ من جرائمِهم! فتطايرتْ مآذنُ المساجدِ؛ لتكونَ شاهداً على فظاعةِ جرائمهم !!
اليوم سقطتْ كل أوهامِهم، وما عاد أمام السلطةِ الفلسطينيةِ بالضفة سِوى العودةِ إلى أحضانِ الشعبِ، والعودةِ لمربعِ المقاومةِ وتحريرِ الأرضِ، والاستمرارِ في النضالِ السياسي عبرَ المؤسساتِ الدوليةِ؛ لانتزاعِ ما يمكنُ انتزاعُه، بينما المقاومةُ على الأرضِ ماضيةٌ في ثورتِها وانتفاضتِها ضدّ الاحتلالِ ووُجودِه... وإلغاءُ كافةِ الاتفاقاتِ التي هدفُها خيانةُ الوطنِ، اتفاقاتٌ جمّلوها بمعسولِ الكلامِ ، لكنها تحمل رذيلةَ التنسيقِ الأمني!!
المصالحةُ الفلسطينية المخلصة؛ هي أولى خطواتِ العودةِ لمربعِ الشعبِ، والتكفيرِ عمّا مضى من خطايا تُجاه غزة، بقَبولِ حصارِها، والصمتِ على الحروبِ ضدِّها، وارتكابِ المجازرِ بحقِ شعبِها المرابطِ على ثراها الحاضنِ لمقاومتِها... الرافضِ لرفعَ رايةِ الاستسلامِ !!
مصالحةٌ فلسطينيةٌ تتبَعُها عودةٌ فورية لإشعالِ انتفاضةٍ باسلةٍ بالضفة الغربيةِ، ونزعُ فتيلِ الصمتِ والسكونِ، والعملُ على أنْ تكونَ السلطة حاضنة لكلِّ سُبلِ المقاومةِ ضدّ الاحتلالِ ووجودِه, وشطبُ كلِّ ما يضرُّ الفلسطيني من معاهداتٍ ورَّط الاحتلالُ بها السلطة , السعيُ للعودةِ للجامعةِ العربيةِ، وإثارةُ الكُلِّ العربي؛ للوقوفِ بشكلٍ جادٍّ لجانبِ نضالِ الشعبِ الفلسطيني، وحقِّه في المقاومةِ، والسعي لإثارةِ القضيةِ في كافةِ المحافلِ الدوليةِ؛ لانتزاعِ كل حقوقِ الشعبِ الفلسطيني، والمُضي قدُماً في معاركَ سياسيةٍ لا توقِفُ الانتفاضةَ والمقاومة ضدَّ المحتل.
إنْ لم نكنْ اليومَ قادرينَ على الخروجِ من عنقِ الزجاجةِ، والعودةِ الكاملةِ لوضعِ استراتيجيةٍ واعيةٍ قادرةٍ على جمعِ الكلِّ الفلسطيني؛ تحتَ رايةٍ واحدةٍ هي علمُ فلسطين الذي هو فوقَ كلِّ الراياتِ والألوانِ. إنْ لم نكنْ اليومَ لدينا قناعةٌ وقدرةٌ على إنهاءِ ما كان من استنزافٍ لفلسطينَ، وقتلِها بما يسمَّى مفاوضات! فسنكونُ كمَن يُلقي بنفسِه في قعرِ نارٍ لا تُبقي ولا تَذر للكُلِّ الفلسطيني... للقدسِ والأقصى... للأرضِ والعِرضِ!!