استخرت ذاكرتي خلال لحظات تأمل وخشوع، وتعبد في دهاليز الذاكرة والذكريات، وقطعت من حالة التأمل مسافات زمنية لا تقاس بالأميال أو بالكيلو مترات، بل تقاس بالزمن، حيث نبشت في صلاة استخارتي الخاصة بطقوسها الخاصة، وعُدت بالزمن أثنين وعشرون عامًا، حيث كُنت في مرحلة الفتوة الشبابية، وأنا أبحث عن ذاتي في زنزانة صغيرة رقمها(6) وأخرى رقمها(23) كان لهما من الشهرة ما يكفي، لأن تتذكر كلمة ( قذارة) لظروفهما الخاصة، من حيث ضيق المساحة، والرطوبة، وعدد الأسرى المتكدسون في متر عرض بطول متر ونصف، ورغم ذلك، كل الوجوه يعلوها ابتسامة عزٍ وكبرياء، وإصرار على الصمود، ومواصلة مسيرة التحدي.
زنزانتي لم تكن زنزانة عادية أو تقليدية، بل كانت زنزانة دونت شهادة الميلاد لعلم خاص، لم يتعاطاه أو يتعلمه أيّ كان إلَّا من مارسه بالعمل والمعايشة، هو علم أطلقت عليه علم (السيورجولة)، أيّ سياسة الرجال، تخصص فريد لم تتداوله بعد الأكاديميات، أو الجامعات، أو معاهد إعداد القادة، أو الكوادر البشرية، أو مقررات التنمية البشرية، أو رفع الكفاءات والقدرات، بل لم تتدراسة أيّ تجربة أخرى سوى التجربة الأسيرة الفلسطينية.
هذه الإطلالة هي خلاصة صلاة الاستخارة التي اعتكفت بين يديها برهة من الزمن، وأنا أحاول أن أكتب عن يوم الأسير الفلسطيني، السابع عشر من نيسان، وهو يوم لا يشبهه أيّ يوم آخر. فهو يوم خاص، باحساس خاص، بطقوس خاصة. فتساءلت بيني وبين نفسي هل الأسير الفلسطيني مقهور أم قاهر؟
هذا التساؤل الصغير خلفه إجابة كبيرة وعظيمة، لأنه يحمل في طياته تدوين سيواجتماعي، يعتمد في تحليلة على الوصف للظاهرة التي نحن بصددها... مع عنونة لمسيرةٍ عايشها الذهن والبدن معًا.
الأسير الفلسطيني قاهر؟
نعم؛ أنه قَاهر، قاهر لكل محاولات العدو الصهيوني بتكديس أدميته في زنازين التجمد البشري التي حاول – ولا زال- أن يمارسها مع الأسرى الفلسطينيّين، وتفريغهم من مضمونهم النضالي، والإنساني، فأدرك الأسير الفلسطيني، والحركة الأسيرة الفلسطينية نوايا ومضامين هذا العدو، الذي ضرب عرض الحائط بكل المواثيق الدولية، المتعلقة بأسرى الحروب، واصطنع قانون خاص للأسرى الفلسطينيّين، فكان الرد من جنس العمل، وأدرك الفلسطيني بفطنته الثورية والنضالية مرامي وأهداف العدو الصهيوني، فأطلق العنان لجبروته، وشَرع قوانينه الخاصة، ليحول زنازين الأسر إلى أكاديميات، بمناهج ومقررات خاصة، تأخذ على عاتقها غرس الوعي الوطني، والعلمي، والاجتماعي، وبناء إنسان قادر على استيعاب وفهم الحالة، وتحفيز وأستنفار كل مقومات الصمود والتواصل، والارتباط بين الإنسان المأسور في زنازين القهر، وبين الوطن الحي في ذهن التحدي، فقهر الأسير بإرادته جبروت العدو ومخططاته، واستطاع أن يخلق للثورة وللوطن كتائب من المقاتلين، والأدباء، والشعراء، والفنانيين، ولنتأمل واقعنا الحي وواقع أسرانا، الذين ينبعثوا من الموت كالعنقاء، منهم القائد، ومنهم الأكاديمي، ومنهم الفنان، والعشرات إن لم يكن المئات منهم من استكمل مسيرته الدراسية، وأصبح على أعلى سلم العلم والمعرفة...
كيف كان الأسير الفلسطيني قاهر؟
بدأت الحركة الأسيرة الوطنية تنظم صفوفها، وتوحد رايتها، وتصيغ قانون بقائها، من خلال تنظيم سبل الحياة في داخل السجون رغم القمع، والترهيب، والعزل، ولكنها أصرت وقدمت عشرات الشهداء لتحقق أهدافها، وتقهر سجنها، وسجانها، فنظمت الحياة الاجتماعية في داخل الأسر، من حيث المأكل، والمشرب، والترفيه، والقراءة، والتوعية، والتثوير، والتعليم، والاهتمام العقلي والبدني بآن واحد، فكان الأسير الفلسطيني يُدرك واجباته، ويعرف حقوقه الاجتماعية، والسياسية، والأمنية، وعلاقاته الوطنية في منظومة متكاملة، متفق عليها... وطنيًا... كل منهم له دوره، وله عمله، ضمن حدود امكانياته، وقدراته، فتحولت زنزانة الأسير الفلسطيني، لخلية عمل دائمة، ونشطة، لا مكان للكسل والتواكل فيها... فإزداد الأسير قوة وإصرار، وقهر كل أدوات القمع، والقهر الصهيوني.
الأسير الفلسطيني مقهور؟
نعم؛ فبقدر ما كان قاهر، بقدر ما كان مقهور، حيث مارس – ولا زال- العدو الصهيوني، وإدارة السجون الصهيونية، كل أنواع القهر، والقمع، الأمني، والقانوني ضد الأسرى، فحرمهم من حقوقهم المكفولة لهم دوليًا، ولم يعترف بهم حتى راهن اللّحظة كأسرى حرب، بل شَرع لهم قوانين خاصة محاولًا تفريغهم من محتواهم النضالي والوطني، وقتل روح الإنسان بهم، وقتل إنسانيتهم... فمنع أدنى حقوقهم الإنسانية، من مأكل، ومشرب، وتعليم، وزيارة أهالي، واتباعه لسياسة العزل، والعقاب الدائم، ومهاجمة الزنازين بالغاز والهراوات، والتفتيش الدائم، وفرض أحكام خيالية ضدهم، ومحاولة زرع الفتن بينهم، من خلال عملائه، وأجهزته الأمنية، والضغط عليهم بجلب نسائهم وبناتهم وأخواتهم، لإجبارهم على الإعتراف، ومنع علاجهم، وتقييد أقدامهم وأيديهم، وممارسة كل أساليب الإذلال والعنف ضدهم ... وحربه الدائمة معنويًا عليهم...
إلَّا أن القهر يولد قهر، والعنف يولد غضب، والغضب يولد رجال، والرجال يحطمون القيد، ويعانقوا الشمس المختبأة خلف الزنازين، وخلف جدران متآكله ... لذلك فالقهر المُمارس ضد الأسرى الفلسطينيّين، تفوق وفاق على كل ما مارسته أعتى الديكتاتوريات وأنظمة الإستبداد العالمية بحق بني البشر، كما فاق وتفوق على وأد الفتيات في الجاهلية... فحاولوا وأد الأسرى، إلَّا أن كلّما وأدوا أو حاولوا قهر ووأد الأسرى ... ولِدتَ العظمة وتجلت مظاهر الإبداع في الصمود ... فمنهم من سقط شهيدًا، ومنهم من اخترق جدران القيد وحرر نفسه، ومنهم من تحرر وعاد بعناد وإصرار ليحمل الوطن على راحتيه ويمضي.
السابع عشر من نيسان ....
أزهر وأنبت هذا اليوم، ميلاد فجرًا، وإرادة منسوجة من خيوط الشمس المفقودة المختبأة... في ذهن كل أسير فلسطيني، وفي قلب كل بيت فلسطيني، وفي ذاكرة كل طفل فلسطيني، وفي ضمير كل شرفاء وأحرار العالم، وأصبح عنفوانًا ثوريًا يدوي بصرخة غاضبة... "لن تمروا"؛ من دمنا، من صمودنا، من ثباتنا، من إصرارنا، من عنادنا، من حبنا للأرض، للحرية، لقطرة كرامة تروي المحرومين من شرف الثبات.....
فإن كنا نرى بالسابع عشر من نيسان يومًا للأسير، فهو يوم للكرامة، يومًا للإنسانية المبعثرة بين نفاق أسرة دولية، وقوانين منهوكة، يومًا للحياة في كل نبضة تستصرخ ضمائر عالم يَدعي الديمقراطية.... يومًا لكسر الكتل الأسمنتية التي حاول العدو من خلالها أن يجعل من أسرانا أجساد غير آدمية، مسلوبة الروح والفعل.
في السابع عشر من نيسان فليتذكر العالم المتمدن أن هناك خلف الشمس إنسان متكدس خلف الجدر الأسمنتية، ينازع الحياة، ويقتلع من الموت حياة، ويغرس في الجثامين المسجاه في السماء أمل بالبقاء، وليتذكر العالم أن هناك آلاف الأنفس تُقتل يوميًا، وتحرم من ديمقراطية القرن الواحد والعشرون، وتقاوم الكف المخرز ....
د. سامي محمد الأخرس
[email protected]