ذات يوم عندما كان السيد اسماعيل هنية يقوم بمشاوراته لتشكيل حكومته, فوجئت به يدخل مكتبي صحبة الأخ المناضل أحمد حلس "أبو ماهر" أمين سر حركة فتح في قطاع غزة آنذاك, بعد مشاركتهما في تشييع شهيدين. كان اللقاء فرصة لمصارحة رفيق الشيخ الشهيد برأي تجرأت عليه, اعتقدت, ومازلت, أنه الصواب.
قلت له: لقد فزتم برئاسة وأغلبية أعضاء المجلس التشريعي, ونصيحتي التوقف والاعتذار عن تشكيل الحكومة. لن تضيف إليكم شيئا, بل ستكون فيها متاعبكم. واستخدمت مفردة "مفسدة " من القاموس الديني لوصف الحكومة. عللت رأيي أن المجلس هو من يتحكم في تشكيل الحكومة ومحاسبة أعضائها والتحكم في مستوى أدائها وعملها وفق ما ترون وتطمحون, بحيث تتناسب والشعارات التي رفعتها حماس واختاركم الناس بناء عليها.
كعادته رد أبو العبد بابتسامة عريضة , فيما نظر إليّ الاخ ابو ماهر وقال: إن حماس اتخذت قرارها ونتمنى أن تقوم بواجبها لخدمة شعبنا .دعهم يجربون. وختم مداعبا: أبو العبد قدها.
ليس تشفيا, ولا استعلاءا معرفيا, ولكن ما استدعي استحضار تلك اللحظات هو المعاناة الطويلة التي أحاطت بحكومة السيد هنية والمتاعب التي جرتها على شعبنا وما جلبته من حصار كان المواطنون العاديون أكثر ضحاياه, ثم اعتراف نادر للسيد خالد مشعل بأن السلطة والمقاومة نموذج لا يحتذى وأن المزاوجة بينهما أمر صعب. بعدها, بدأنا نسمع من قادة الحركة عن صعوبة الجمع بينهما, وبدأ الناس في التململ من حكم حماس وتسخير كل طاقتها لخدمة الحركة وابنائها بدرجة أولى, الى أن بدأ الناس في الجهر برغبتهم في التخلص من حكمها, رغم قسوة القبضة الحديدية والتراجع المخيف في مستوى الحرية في القطاع.
يستطيع قادة حركة حماس الآن أن يمدوا أرجلهم ويتنفسوا الصعداء من هم ثقيل كان جاثما على صدورهم, ومراقبة عمل الحكومة المؤقتة أو الحكومة التالية, دون تكرار ما سبق, إذا كانت النية المحافظة على "المبادئ والثوابت" التي يرونها. لم يكن اللجوء الى العواصم العربية لتكون ساحة لالقاء السلاح, أو مجرد التوقيع على اتفاقات المصالحة, ولا هي تعبيرا عن قصر نظر قادة الفصائل وعدم معرفتهم أن الحل يكمن هنا في الداخل الفلسطيني إذا توفرت الارادة, بل أرادوا أن يكون الجانب العربي شاهدا على صدق " نواياهم ", لكن تلك العواصم ,رغم ثقلها, ما استطاعت أن تفرض على طرف ما الالتزام ببنود ما وقع عليه . فقط كان إحساس كل منهما هو الذي فرض عليه اللجوء إلى المصالحة . أدركوا أن لا مفر وربما تيقنوا, أن الناس تمهل بفعل عوامل لكنها لا تهمل, وأن مخزون الذاكرة لديها أقوى من أي أرشيف حديث إذا أرادت أن تخرجه عندما تريد, لتحاسب من تريد. كان من المهم إذن أن يتولد احساس بحاجة كلا الطرفين الى الاخر ليكون اللقاء الذي طال انتظاره. الملفات التي قدمت الى المؤسسات الدولية ستأخذ زخما وقوة . والذهاب الى المفاوضات سيكون مختلفا. الشعب كله يقف مع المفاوض والمقاتل. الحكومة القادمة قادرة على فتح نوافذ وبوابات كانت مغلقة. المواطنون في غزة سيتنفسون الصعداء واخوانهم في الضفة سيواجهون استقواء الحكومة الاسرائيلية على أراضيهم وتغول المستوطنين على مزارعهم وبيوتهم. آن لنا أن نودع مرحلة بكل ما فيها ونطوي صفحتها الى الأبد.
المصالحة الوطنية قاب قوسين أو أدنى من التحقق. ومعها سيكون للوطن واسمه وشعبه حضور مختلف . فهل نحن جاهزون لدفع الثمن؟
رئيس سابق لوكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"
