تكذيب المحرقة التي لحقت باليهود أثناء الحرب العالمية الثانية ليس شأناً فلسطينياً محضاً، ولا هو شأن عربي، المحرقة قضية تخص المجتمع الدولي المتهم من قبل اليهود بالصمت على المحرقة، أو ممارسة المحرقة، والمجتمع الدولي يدفع عن ذلك من قوت يومه أموالاً طائلة، يجبيها اليهود منذ عشرات السنين وحتى يومنا هذا.
بعض الأوروبيين الذين لم يصدقوا أكذوبة المحرقة راحوا يبحثون، ويتقصون الحقائق، ويوثقون الأرقام، ومن هؤلاء الفليسوف الفرنسي رجاء جارودي، الذي قدم أرقاماً ووقائع عن الحرب العالمية الثانية تكذب الإدعاءات اليهودية عما لحق باليهود.
مأساتنا ليست في تكذيب المحرقة أو تصديقها، مأساة الفلسطينيين تكمن في أنه الشعب الذي انصب عليه الغضب اليهودي، وكان عليه أن يدفع من أرضه ومن دماء أبنائه ما يعوض اليهود عن إدعائهم، لذلك فإن المحرقة التي يدعيها اليهود تذكرهم بأرضهم، ووطنهم المغتصب الذي كان اسمه فلسطين؛ فصار اسمه بعد المحرقة "إسرائيل".
"إسرائيل" هي محرقة الفلسطينيين التي يشهد وجودها على هجرة الملايين منهم، ويشهد على وقوع الملايين منهم تحت الاحتلال الإسرائيلي.
من حق الفلسطينيين أن يتذكروا محرقتهم كلما تذكر اليهود محرقتهم، ومن حق الفلسطينيين أن ينزفوا دماً على شهدائهم كلما تذكر اليهود قتلاهم، ومن حق الفلسطينيين أن يتحسروا على وطنهم المغتصب كلما احتفل اليهود بما يدعون أنه وطنهم العائد، ومن حق الفلسطينيين أن يجدوا من يعزيهم بمصيبتهم كلما تسابق قادة العالم على تعزية اليهود.
تلك الحقائق أدركها السياسيون الفلسطينيون منذ عشرات السنين، لذلك نأوا بأنفسهم عن حديث المحرقة، ولم يجرؤ أيهم على تقديم واجب العزاء لليهود بما أصابهم حتى إبريل سنة 2014، حين قدم الرئيس الفلسطيني محمود عباس واجب العزاء لليهود، وراح يصف المحرقة بأوصاف لم يصدقها اليهود أنفسهم، وتشككوا فيها، وهم يراجعون رسالة الدكتوراه التي كتبها السيد محمود عباس نفسه، وأنكر فيها أرقام القتلى التي ذكرها اليهود.
لقد رفض اليهود تقبل التعزية من السيد محمود عباس، وجاء الرفض على لسان نتانياهو، الذي قال: إن التعزية لا تنسجم مع تحالف عباس مع حماس، ولا يمكن للرئيس عباس السير في اتجاهين متعارضين؛ لا يمكن أن يقول: إن المحرقة مروعة، وفي الوقت نفسه يحتضن أولئك الذين ينكرون المحرقة ويسعون لاقتراف دمار آخر للشعب اليهودي.
في هذا المقام لا نمتلك إلا تصديق خطاب نتانياهو، والتأكيد على ضرورة أن يحسم الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمره، وأن يختار بين التحالف مع حركة حماس، ويراعي مزاج الشعب الفلسطيني الحاقد على من اغتصب أرضه، وبين مواصلة إرسال شارات الغزل للإسرائيليين، والانتظار قريباً من طاولة المفاوضات التي علق جلساتها الإسرائيليون أنفسهم.
وفي هذا المقام لا أمتلك إلا تذكير قيادة حركة حماس بأهمية المصالحة، وضرورة التمسك فيها مهما رفع السيد عباس من نبرة تصريحاته، وعلى حركة حماس أن تبدي حرصا ًشديداً جداً على عدم إضاعة الفرصة التاريخية الموجعة للإسرائيليين.