لا يستوقفني كثيرًا مصطلح "مصالحة" الذي يتغنى أو يطلقه المُعظم على حالتنا، لأنه لا يمثل بالذاكرة الفلسطينية إنتهاءً لحالة احتراب قائمة، أو خصام قائم، حيث أن الحالتين سالفتي الذكر انتهى وضعهما منذ أمد بعيد، أي ما بعد الأشهر الأولى الّتي لَم تتعد أصابع اليد الواحدة بعد حالة الفصال والفصام الّتي سلكها فئتين محدودتين في فصيلين كبيرين، فكانت النتيجة فصام وانفصال انتهت كل مكوناتهما وأشكالهما منذ أن بدأت جملة التفاهمات والتقاربات تجد طريقها بين الطرفين، وسخنت الأحضان المشتاقة الملتاعة، وتبادل القبلات، وتسرد ما في جعبتها من تفاهمات تعاونية في شتى المجالات، الصحة، التعليم، الطاقة، الضرائب، جوازات السفر... إلخ من القضايا الحياتية، بل والسياسية، مع الاتفاق غير المعلن على بقاء الحال عما عليه لحين مَيسرة.
إذن عن أي "مصالحة" هنا الحديث؟ هل عن مصالحة رسمية بين طرفين يتعاونان بكل شيء، ما دون الانصهار جغرافيًا؟ أم عن المصالحة المجتمعية؟ في حين أن الأخيرة أيضًا اصبحت في وضع المناغاة فيما بينها، ولَم تعد لغة الطرق على الرؤوس سائدة، أما جغرافيًا فنجن منفصلين بفعل الإحتلال، ولا يمكن خلق قواعد التوحد جغرافيًا دون الإنتهاء من اتفاقية سلام شاملة مع الكيان تؤدي لتوحد جغرافي عبر ممر أمن.
برأيي أن حالتنا الفلسطينية الحالية لا تحتاج مصالحة وفق المفهوم المتداول والأشمل لمعنى الكلمة أو الإصطلاح، فهو أبعد ما يكون عن الحقيقة، وأبعد عن الواقع التخيلي في تصورات شعبنا الفلسطيني، لأن كل عوامل ومكتسبات المصالحة محققة على الأرض حتى بين الفئتين المتصادمتين سابقًا، فكل ما كان على الأرض يشهد أن أموال الإمارات وحدة صفهم، وشقت خلافاتهم، وإلتقت بهم على طاولة المصالح المستديرة، وجمعت شملهم في تمحيص آليات صرف أموال الإمارات والتعاون فيما بينهما بهذا الخصوص، وإلتقت المصالح في مجرى انسيابي يؤدي لبحيرة واحدة تعانقت وتلاقت بها كل الأسماك باختلاف الألوان والأحجام، ولَم يعد هناك من يرفض إلتقاط الطعم، بل وشكلا حالة انسجامية موحدة ومشتركة فيما بينهما لقيادة دفة الإصراف المالي. وعليه فإن المصطلح أو الحالة المعنية الّتي نحن بصددها تندرج تحت مسمى محدد، أو مفهوم محدد، متشعب أي " المصارحة" أولًا.. بدءًا من المستوى السياسي الرسمي، مرورًا بالمستوى الشعبي، وانتهاءً بالمستوى المؤطر حزبيًا وثقافيًا، إننا بأمس الحاجة لحالة من المصارحة السرية فيما بين ذواتنا، وعلنية مع شعبنا ومحيطنا، إننا بعد الفصام والفصال الأول من عام 2007 خضنا حالة من المطارحة السرية المحرمة، بين قوانا المتخاصمة- إن جاز- ومارست مطارحة بكل عشق وانسجام، وتوافق، ومحبة، وشهوة بما إنّها وفق المتعارف عليه نفسيًا، أو وفق النفسية المأزومة بوسائل وأدوات الكبت تعتبر أكثر متعة وإمتاع، من الإرتباط والاقتران الشرعي... لماذا؟
السؤال بسيط، والإجابات واسعة وكبيرة، لأن المطارحة الشرعية تتطلب عقود ومواثيق، وتعهدات، وإلتزام، وتؤدي للمسائلة، والتساؤلات، الّتي يمكن لها أن تعري البعض، أو تفضح البعض من محاور الإلتقاء، سواء على المستوى الحزبي الداخلي، أم المستوى الشعبي الفلسطيني، أو المستوى الإقليمي، أو على مستوى دائرة الولاء والإنتماء الأكبر في حاضنة أكبر، وهذه الحالات أخص حركة حماس حيث إنّها في حالة المطارحة العلنية الشرعية ستجد لزامًا عليهها التوضيح والشرح باسهاب، لجماهيرها وعناصرها عن مواقفها من العديد من القضايا والنقاط، وموقفها الفعلي والحقيقي من عملية التفاوض المستمرة مع السلطة الفلسطينية والكيان، وهنا يقع المحظور، وكذلك موقفها من سياسات وبرامج السلطة الوطنية واتفاقياتها والّتي تعتبر هي أحد أركانها بما أنّها حكومة سلطة، والأهم موقفها من مفهوم وممارسة المقاومة. وحقيقة مواقفها من قوى الممانعة" إيران، سوريا، حزب الله"، وترك سياسة مسك العصى من الوسط، وكذلك تبرير حالة الخلاف مع الجماعة الحاضنة والأوسع "الإخوان المسلمين" أصحاب المشروع الأكبر في المنطقة بعد ما أطلق عليه " الرّبيع العربي". أما حركة فتح فهي بمطارحتها العلنية ستضع نفسها أمام إجابات واضحة وصريحة، سواء أمام محيطها الإقليمي، أو محيطها التفاوضي السياسي عن القضايا والتفاهمات مع حركة حماس، كما سيتطلب منها توضيح وتعليل لعناصرها حفلات الردح والقدح بين قيادييها في اللجنة المركزية، وإلى أين تسير فتح؟
بكل الأحوال القارئ للحالة يدرك أن الحركتين لا يضعان أهمية كبرى للجماهير الفلسطينية غير المبالية في ذلك الوقت نتيجة السياسات العرجاء لفصائل المطارحة، وكذلك لا تعبء لمستوى الغضب الحزبي الداخلي بما أن ثقافة الإنتماء لدينا أصبحت تستند وترتكز على الطاعة العمياء، لا نقاش لا حوار لا غضب ... بل أن العناصر والمكونات الداخلية تبصم على بياض. إذن فالمؤثر الفعلي هو المحيط الإقليمي في مؤشرات مصارحتنا الفعلية. وعليه فنجن لسنا بحاجة لمصالحة كما يطلق عليها، بل نحن بحاجة لمصارحة للمطارحة القائمة.
د. سامي محمد الأخرس
[email protected]