جمعني أمس الاثنين لقاء بالأخ الدكتور موسى أبو مرزوق "نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس" ونخبة من سياسيي وأكاديميي ومثقفي ووجهاء محافظة خان يونس، انصب النقاش فيه على محورين: المصالحة وأفق المشروع الوطني الفلسطيني.
أعتقد أن الأخ موسى كان "صادق القول" فيما تحدث به، لكن ذلك يؤكده أو ينفيه ممارسة الفعل، لأن الفكر السياسي الفلسطيني "أبدع" في ممارسة التنظير، وفشل بامتياز في امتحان التطبيق. ولكي يُقرن القول بالعمل، أُلخص (من وجهة نظري) أهم ما قاله الأخ موسى – الذي سيكون محور مقالي هذا - دون الإقلال من كلام آخر مهم قاله: أن طرفي الانقسام أدركا أن انقسامهم هذا خطأ كبير لا رابح منه سوى الكيان الصهيوني، وأن حماية المشروع الوطني تتطلب وحدة الصف الفلسطيني.
في مثل هذه اللحظات ينطبق المثل الدارج: "أن تأتي متأخراً أفضل من أن لا تأتي"؛ لكن هل كنتم حقاً تحتاجون إلى ثمانِ سنوات كي تأتوا؟! وقبل ذلك هل كنتم تحتاجون كل هذا الوقت كي تدركوا خطر الانقسام وغياب الوحدة، "وتيه وتشتت" المشروع الوطني المأزوم أصلاً؟! ألم تعلو قبل الاقتتال والصراع وصولاً للانقسام، أصوات طالبتكم بتغليب الوطن على فئويتكم، وتقديم الأهداف الوطنية على مصالحكم الحزبية، وإعلاء شأن الشعب/المواطن على الحزب/القبيلة؟! ألم نُوقع الاتفاقات والمواثيق ونُغلّظ الأيّمان أن لا نعزز الانقسام، لكن الارتكان على ظهير كالأمريكان والكيان من جهة والإخوان من جهة أخرى، جعل الانقسام عنوان لمرحلة أكلت من القضية وشعبها وعمقت الأحزان؟! ألم نُكن قادرين على إدارة صراع على سلطة حكم إداري ذاتي "رُفضت شعبياً، وداستها الدبابات الإسرائيلية فعلياً" إلا بالانقسام وتعميق ثقافة القهر والكبت والقمع والمصادرة... وقتل الإنسان؟! وهل من لم يستطع أن يدير سلطة أنتجها "الاحتلال" قادرٌ على إدارة دفة وطن وشعب وقضية أدماها حتى الإدمان؟! وهل حقاً وصلنا لقناعة جدية أن المطلوب "مصالحة وطنية" أساسها وركيزتها أن تتصالح الذات مع الذات أولاً، كي تستطيع أن تتصالح مع الغير فعلاًّ؟! أم لا زالت "ذهنية القبيلة" تسود على أساس "تقاسم الغنيمة"... ؟! إذا كان الأمر كذلك فالقبائل "تتصارع ثم تتفق ثم تعود لتتصارع.. فهذه الدورة لا تنتهي"، وهنا الفرق بين مصالحة مع الذات من موقع القناعة الوطنية، وأولوية الصراع مع "الدولة" الصهيونية، وعدالة القضية، وأهمية الوحدة الوطنية (كركيزة أساسية لحماية الذات والقضية)، وحماية وتعزيز المقاومة "ثقافةً ونهجاً وفعلاً"، وصون الحريات العامة والكرامة الوطنية/المجتمعية والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والتحمل المشترك لعبء القضية...الخ. ومصالحة المُضطرين والمُجبرين التي تحل أزمتها على "حساب مشروعها"، وصولاً لاقتناص فرصة "الفكاك/الخلاص"، والارتداد لذهنية القبيلة/العشيرة، التي أول ما ستأكل من مارسها واستهوى لعبتها...!!.
وفي ذات الوقت عن أي مشروع وطني نتحدث، عن "مشروع التحرير" أم "مشروع السلطة"، التي لا يزال البعض مُقتنع وهماً بأنها نواة للدولة الفلسطينية المٌنتظرة، منذ أربعة عقود مروا، فخسروا المشروع وقبله القضية؟!، لأن "مشروع الدولة" التي اعتقدوا أن طريقها يمر بسلطة حكم إداري ذاتي بعد أن كانت "في برنامج النقاط العشر/المرحلي عام 1974م" سلطة الشعب المقاتلة، صُممت وفق الرؤية الأمريكية – الصهيوينة، التي وضعت القيادة المُتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية على سكة نهج التسوية، ليس من أجل تحقيق "رؤيتها للدولة"، بل لترسيم استسلامها فعلياً فكان اتفاق أوسلو بداية الطريق، الذي لا تزال فصوله مستمرة، وشروطه وإملاءاته واستحقاقاته تلف عُنق قيادة لا تجد مفراً سوى بقاء السير على قضبان تسوية، لن تجني منها سوى استمرار وهم استشرى إلى أن غدا طفرة.
يقال أن من لا يتعلم من تجاربه، لن تعلّمه تجارب الحياة، فخلال تجربة (عشرين سنة مفاوضات)، ثبت فعلياً وليس بالقول فقط، أن الاحتلال الإسرائيلي كان يفاوض نفسه، حيث لم تصل قيادتها الفلسطينية، إلا لتبهيت وتشويه وقضم وتضييع وتجاوز عدالة القضية وحقوقها التاريخية وقبلها ما أطلقوا عليه مرحلية. فهل سيكون عنوان مصالحة طرفي الانقسام في سلطة أوسلو وعليها، هو استمرار الرهان على دور الأمريكان، في دفع القضية وصولاً "لدولة فلسطينية" وفق الرؤية الإسرائيلية؟! أم نتحدث عن مشروع التحرير الذي كُلفته دم وتضحيات وإدارة سليمة للصراع الشامل والتاريخي/الوجودي مع العدو الصهيوني، وتوفير متطلبات ذلك، من خلال إعادة الاعتبار لتعريف الصراع وطبيعته بصورة حقيقية، وتوصيف المرحلة التي تعيشها القضية، التي لا تزال مرحلة تحرر وطني وديمقراطي بامتياز، تحكمها علاقة جدلية بين مهمات الصراع الوطني ومهمات البناء الاجتماعي؟! لذلك فإن بناء الأداة الوطنية/الاجتماعية الكفاحية والكفؤة القادرة على اشتقاق مسار جديد، بات أمراً ملحاً لا يحتمل التأجيل أو التسويف أو المماطلة.
يبقى قول: أن تأتي متأخراً أفضل من أن لا تأتي، في حالتنا الفلسطينية الرازحة بين مطرقة الاحتلال الصهيوني من جهة، وأزمة المشروع الوطني وتيه الانقسام الجغرافي والمجتمعي من جهة أخرى– ولكي لا يُفهم من مقالي هذا وكأنني أرفض المصالحة أو أنكأ الجراح – صحيحاً، لكن لا يصح بالمطلق، طالما نعترف بعد ثمانِ سنوات مروا من عمر الشعب والقضية - كأنهم دهر بكامله - أننا كنا مُخطئين، إلا من خلال أن يُستكمل هذا الاعتراف بالاعتذار المُعلن (الواضح والصريح) للشعب الذي أنهكت قواه، عفوية وعشوائية وارتجاليه وقبلّية وضيق أفق وقصر نَظر؛ بل وفقدان رؤية فصائله وأحزابه وقواه.
أُنهي من حيث بدأت: ألم يحن موعد الاعتذار لشعب طالت وقفته على بوابة الانتظار؟! حتى يستريح أن "إنهاء الانقسام" قائم من بوابة أهدافه ومصلحته الوطنية، وليس من شباك "إدارته" لكي تبقى لكل قبيلة غنيمتها السلطوية.