في اقل من شهر ثلاث جرائم قتل في الضفة الغربية،وهذا مؤشر على درجة عالية من الخطورة الى ما وصلت اليه الأمور،وهو ناقوس خطر يجب ان يشعل الضوء ما بعد الأحمر،وان يستنفر له كل صناع القرار والمراجع الدينية والتربوية والمؤسسات الإجتماعية والنفسية،والخبراء والمختصين في هذه المجالات،فالخطب والشعارات والوعظ والصلحات العشائرية القائمة على "تبويس" اللحى وفنجان القهوة السحري،لن تسهم في العلاج،فنحن امام مجتمع غير سوي،يعاني من ازمات إجتماعية عميقة،وجهل وتخلف في حياتنا الجنسية.
نحن أمام إنهيار وتفكك إجتماعي،وإنحلال أخلاقي وغياب للوعي والضمير والقيم الإنسانية،فلو كان هناك قيم واخلاق ووعي،فكيف نفسر ان تقدم مجموعات من القتلة والمجرمين،الذين يمتهنون القتل من اجل القتل،بتقطيع رؤوس البشر في مناظر تقشعر لها الأبدان في شام العروبة،ومن ثم تتباهى بقطع الرؤوس امام الكاميرات وتلتقط لها الصور معها؟؟،دون ان تصدر المراجع الدينية والمؤسسات المسماة بالحقوقية والإنسانية،أية مواقف وفتاو حاسمة تجرم مثل هؤلاء القتلة،وتعتبر ان ما يقومون به،خارج على الأعراف الإنسانية،وليس الدين الإسلامي بكل الشرائع السماوية وحتى الوضعية منها براءة من مثل هذه الجرائم البوهيمية والوحشية.
فالسكوت على مثل تلك الجرائم وعدم محاكمة مرتكبيها،يخلق لمثل هذه الظواهر حواضن وبيئة،ويشجع على تفشيها وانتشارها في المجتمع.
واضح بان معدلات الجريمة في المجتمعات العربية في ازدياد وارتفاع مستمرين،وهذا مرتبط بتخلف الواقع الإجتماعي وسيادة ثقافة الجهل والغيبيات والدروشه وتعطيل الفكر والعقل،وتدنى مستوى الوعي وتسطيحه وتشوهه،وايضاً فإن الفقر والبطالة والنظرة الدونية للمرأة وتسليعها،وكذلك الإنغلاق وتسييد الفكر العشائري والجهوي والقبلي والطائفي،والتحريض المذهبي والديني الذي تمارسه المراجع الدينية بمختلف مسمياتها،وكذلك الفتاوي المتخلفة والمستهدفة فقط لجسد المرأة وطرق إلتهامه،او المنتقصة من حقوقها وحريتها والقامعة لها في كل مناحي وشؤون حياتها،وغياب دور المثقفين والذين في اغلب الحالات يكونوا في خانة المراقبين والمنتقدين للظاهرة،حتى ان جزء منهم والمدعين للثقافة والوعي،مغذين وداعمين لمثل هذه الظواهر،ناهيك عن عدم بذلهم جهود جدية وحقيقية من اجل محاصرة مثل تلك الظواهر ومعالجتها ووضع الحلول لها،تمهيداً للقضاء عليها.
هذه العوامل من المسببات الرئيسية لتلك الجرائم،وغالبا ما تكون الجرائم المرتكبة في مجتمعاتنا،ليست متعلقة بقضايا جوهرية او ذات شان وقيمة،فهي تكون متعلقة بخلافات اجتماعية حول ميراث او نزاع حول ارض أو حتى موقف سيارة او اولوية مرور وغيرها،او معاكسات شبابية،او خلافات زوجية وعائلية وأسرية،واحياناً تكون لأسباب تافهة جداً كمشاجرة فردية بين طفلين أو شخصين،ولكوننا مجتمعات قبلية وعشائرية لم نبلغ مرحلة الدولة المدنية بعد،فما ان تندلع شرارة المشكلة الإجتماعية حتى نحولها لحرب داحس والغبراء،يتم فيها تقديم وتغليب الإنتماء العشائري والقبلي والطائفي والمذهبي على أي انتماء آخر،وهذا مرتبط بحالة الإحتقان والتحريض الممارسة من قبل من يسمون انفسهم مراجع دينية او سياسية او إجتماعية،ونحن رأينا في مصر كيف قتل المواطنين الشيعة فقط لأنهم شيعة ليس إلا،وهنا يجري تعطيل الفكر والعقل،والذهاب وراء العواطف والمشاعر،وكذلك تغيب القيم والخلاق والروابط الدينية والوطنية والقومية،وأية جريمة قتل او اكثر تنتج عن هذا الإقتتال القبلي او العشائري،يستتبعها جرائم اخرى على نحو اوسع بحرق بيوت وممتلكات وسيارات ومحلات تجارية واغلاق طرق وشوارع وتشكيل مليشيات،لكي تأخذ بالثأر،وغالباً ما يتم الإعتداء على أشخاص ليسوا طرفاً في المشكلة او الجريمة الحاصلة من قبل تلك المليشيات،وهي لا تكتفي بذلك بل تأخذ القانون بيدها،حيث هيبة الدولة والسلطة في ظل غياب القانون والمساءلة والردع تتآكل وتتلاشى،ونحن بالعادة نميل الى اخذ القانون بأيدينا،لشعورنا بأن القانون وسلطته ليستا رادعتين.
إن الجرائم المرتكبة والردود على تلك الجرائم،والتي تستبيح كل شيء،تحت حجة وذريعة ويافطة "فورة الدم"،تؤشر بشكل واضح على اننا مجتمعات أكثر تطرفاً وأقل تسامحاً،ومشاكلنا وأزماتنا الإجتماعية تتعمق،وهي بحاجة لمعالجات تطال الجذر والعمق وأساس المشكلة،وليس فقط حلول تبقي النار تحد الرماد،وفي أغلب الأحيان تلك الحلول لا تحقق ولا تلبي الحد الأدنى من الحقوق،أو لا تشكل محاسبة جدية ورادعة للمعتدي او لمرتكب الجريمة،وإستمرار الشعور بالظلم الإجتماعي يعمق المشاكل ويجعلها تتفاقم على نحو اكبر وأسع مستقبلاً.
ثلاثة جرائم في أقل من شهر،لو حدثت في أي بلد آخر لربما كانت كافية،لكي تقيل حكومة باكملها،ولكن نحن لدينا الشماعة التي نعلق عليها اخطاءنا ومأسينا،الإحتلال هو السبب،ولا نقول بان تلك الجرائم لها حواضنها وجذورها وبيئتها ومنظريها وشيوخها ورجال عشائرها،حيث تغيب التربية والتوعية والتثقيف،وتترك الأمور لمن هم ليسوا أهلا للعلاج،ولا نتعلم من اخطاءنا،ولا نضع قوانين رادعة،تجعل من يقدم على مثل هذه الأعمال والجرائم يفكر مليون مرة قبل ان يقدم عليها.
نحن لم نعد خير امة أخرجت للناس،نحن نمارس كل ما هو عكس ما قاله الشرع والشريعة،نمارس كل انواع الموبقات والشرور،نمارس القتل والدجل والنفاق والتملق والسرقة والكذب،وكل اشكال السلوك اللامعيارية،ونقنع انفسنا بأننا الأفضل والأكثر تقواً وورعاً وقيماً واخلاقا بين الناس وبني البشر،ولكن في أرض الواقع نسقط بإمتياز،فنحن في نظر البشرية جمعاء،أصبحنا امة خارج البشرية العاقلة،من يشاهد ما نفعله ببعضنا البعض من قتل وحشي وبوهيمي،يدرك تماماً بأننا نعيش في عصر ما قبل الجاهلية،في مرحلة القطعان البشرية للأسف.