آخر أنبياء الثورة
● أولاً: بداية النشاط التنظيمي .
في سجن الرملة بدأنا أول نشاط تنظيمي، لكنا كنا نعاني باستمرار من مسألة غير صحية، وهي اعتناق العديد من الأسرى لوصفة الجهوية والفئوية ذات الأفق الضيق كأساس لإقامة العلاقات بين الأسرى، وهذه الآفة لا تنظر للقضية إلا عبر هذا الشق الصغير الذي هو نتاج تربية حزبية برجوازية واضحة جداً، لم تكن هذه العقلية قادرة على فهم النقلة النوعية ما بين التربية والحزبية البرجوازية، وما بين التربية الوطنية الثورية، فمنصوص التربية الأولى إن كل ما عداك خطأ، كل ما عداك بينك وبينه نسبة معينة من التناقض والتناحر، أما التربية الوطنية الثورية فتقول بمعادلة الكل الوطني، وتعي مرحلة التحرر الوطني وتضع الجميع في المركب الوطني، وقد كنا نتفاهم على هذه الأرضية، لكننا كنا نواجه بالأفق التنظيمي الضيق، أو الفئوي الضيق، كما كان التنظير الفوقي يسيء إلى الكثير من الشباب المقاتلين ممن اعتقلوا، إساءة طالت مسيرة هؤلاء، وكان ذلك واضحاً.
لقد أدعى البعض بأن لديه تجربة سابقة في المعتقلات العربية، ولكن عندما جاء إلى تجربة المعتقلات الإسرائيلية مُني بالفشل، ذلك لأن الظروف الذاتية والموضوعية كانت مختلفة، وبالتالي فتجربة المعتقلات الإسرائيلية تعتبر تجربة جديدة كل الجدة، وكان علينا جميعاً أن نضع قواعدها وأن نتناكب كتفاً بكتف، ونتكافل ونتعاضد لبناء قواد سليمة وقوية من العمل الاعتقالي، خاصة وأن الرؤيا لدى من يعي الحركة الصهيونية والصراع العربي الصهيوني كانت ترى أن رحلة الاعتقال طويلة، بينما كان يرى البعض الآخر أن سقف هذه الرحلة هو العام ,1970 وإن تشاءم فعام ,1975 وكان من الطبيعي أن نرى رحلة الاعتقال هذه كجزء من الصراع العربي الصهيوني الذي سيطول ليس لسنين فقط ولكن لأجيال أيضاً، وهكذا يتضح أن المقدمات الصحيحة تؤدي إلى النتائج الصحيحة.
لقد بدأنا في نقاشات موسعة تحددت أطروحاتها في أن حركة الاعتقال هي نتاج مادي لتفاعل القضية الفلسطينية، والتي تشكل جزءاً من حركة الصراع العربي الصهيوني، وإن كانت مركزه أو جزئيته المركزية، ذلك أن الفكر الصهيوني ومطامعه المعروفة لا تتوقف عند حدود فلسطين، بقدر ما تشكل فلسطين نقطة مده واتساعه، فالصراع طويل، علاوة على أن المعادلة الدولية تؤكد استحالة إنهاء الصراع العربي الصهيوني بجرة قلم، من هنا كانت رؤيتنا تستمد هذه الضرورة، ضرورة بناء واقع اعتقالي يستطيع الصمود أمام هذه الهجمة الصهيونية، رغم شدة القمع الممارس في السجون، خاصة القمع الجسماني، وآنذاك لم يكن القمع قد دخل مرحلة التنظيم، إضافة إلى أن الحركة الصهيونية بدأت بأجهزتها الاستخبارية والعليا تدرس هذا الواقع الاعتقالي وتفرز آليته.
كان العدو الصهيوني يريد من الواقع الاعتقالي أن يحيلنا إلى أرقام وكنا نرفض ذلك، ومن هنا بدا الصراع، وكان أمامنا تجارب حركات التحرر العالمية التي نجحت في تأطير إنسانها داخل المعتقلات، وكنا نجزم أن هذا التأطير سيتم بالنسبة لنا، وبدأنا ممارسة هذا التأطير، وهو ربط الإنسان المعتقل بالثورة داخل المعتقل، ذلك أن المعتقل الذي لا يمكن زرع الانضباط في أعماقه لا يمكن أن يكون معتقلاً سياسياً، ولعل أكثر ما واجهنا من صعوبة في هذا المضمار، هو كيف يمكن معاقبة من يخرج عن هذه الانضباطية داخل المعتقل، وطبيعي أن يتعذر ذلك، نظراً للواقع والمحيط الذي يشملنا جميعاً، لكن كان لا بد من البداية التي أخذت زمناً طويلاً عبر الحوار المفتوح والطويل والاقتناع هذه، وكنا في نضالنا اليومي نؤكد على المطالب الأساسية التي لا بد من تحقيقها لنا كمعتقلين، ولقد تمت الزيارة الأولى للصليب الأحمر لنا في شهر آذار 1968م وكنت أول من قابل هذه البعثة، ويذكر أن إسرائيل مانعت وما تزال تمانع في اتصال أي بعثة أو لجنة دولية بالمعتقلين، رغم أن الحركة الصهيونية تصر على أنها ديمقراطية.
لقد بدأنا عملية التأطير هذه، أي نقل التنظيم من الخارج إلى الداخل، أعني داخل المعتقلات، وكان على رأس من شارك في هذه العملية الأخ عبد الحميد القدسي، في سجن الرملة باعتباره كادراً تنظيمياً متقدماً، علاوة على تجربته الاعتقالية السابقة، وقد رافق كل ذلك عمل تثقيفي قصد التوعية بالتاريخ الفلسطيني وتجارب الثورات العالمية، فكانت النقاشات التي شملت بعض الأوضاع السياسية، والثورة، وتاريخ تأسيس الحركة، والأحزاب العربية، وبديهي أن حملة التوعية هذه قد بدأت بشكل مبسط ليسهل استيعابه من قبل الفئات العادية من شبابنا والتي لم تحظ بفرصة التعليم، وقد بدأ نوع من التركيز على فئة من الشباب بدت متحمسة ولديها ثابت وطني وثوري، وكان أغلب هؤلاء ممن صمدوا في التحقيق، وسرعان ما أحست إدارة السجن بدبيب هذا النشاط، فعملت على نقلي إلى سجن الخليل، وهناك واصلت مع الإخوة طرح المطالب الإنسانية التي لا بد من توفرها، وبعد شهور نجحنا في أن يكون في المعتقل مذياع ووعدنا بالجريدة.
في سجن الخليل كنا نستطيع أن نلتقي بالشباب الذين يدخلون السجن، ونتحدث إليهم، وكان ذلك قبل أن يوجد هناك قسم التحقيق والحجز، فكنا نخوض معهم أحاديث كثيرة، حيث نكشف لهم دور المخابرات وعملها وأساليبها التي توقع من خلالها المعتقل، فمن كان يصل قبل الاعتراف، كنا نحصنه على عدم الاعتراف فكان ينجو من الحكم، ومن كان يصل بعد تقديم اعتراف للمخابرات أو الشرطة، كنا نعرف كيف نوقفه عند هذا الحد من الاعتراف وأن لا يتجاوزه، والبعض كنا نطالبهم برفض الاعتراف المقدم وإنكاره باعتباره كان نتيجة لشدة الضرب، كما حصل مع مجموعة من الطلبة كانوا قد اعترفوا وسحبوا اعترافهم، وكان ذلك سبباً في نقلي من سجن الخليل إلى سجن نابلسثانياً: تطور العمل التنظيمي في سجن نابلس .
يعود تاريخ أول إستحداث تنظيمي في تجربة الاعتقال الصهيوني إلى شهر ديسمبر/كانون أول في سجن نابلس، حيث كان يضم في تلك الفترة حوالي الألف سجين بين موقوف وإداري محكوم؛ لقد تم ترتيب الأوضاع وتوزيع المهام والمراتب التنظيمية، وتبدأ من الخلية بموجه الغرفة في الغرفة، لجنة للمردوان، لجنة للسجن، لجنة مركزية للسجن، موجه عام، كل هذه الترتيبات استحدثت في سجن نابلس، كان العمل جديداً، ومثل هذه التجربة كانت تحتاج إلى متابعة متواصلة من أجل بناء وتكريس تربية وطنية للاستمرار في الثورة والحفاظ عليها، للوصول بالثورة إلى هدف مميز وواضح أيضاً، كل ذلك كان يتم داخل السجن، بينما الإدارة لاهية بما كانت تسرقه من السجن سواء من محتوياته أو مما ينتجه السجناء لقد تم التركيز المركزي على شباب الدوريات لإعدادهم ككوادر فاعلة، باعتبار أنها ستوزع على بقية السجون في الأرض المحتلة.
كنا بعد أن يتم السجان إحصاء العدد، نبدأ اجتماعنا التنظيمي، وكان هذا ليلاً في إحدى الغرف، لقد أصبح السجن خلية عمل للتعبئة الحركية والسياسية والوطنية والثورية، كما أوجدنا جهاز رصد، وجهاز تحقيق، وقمنا بالتحقيق مع بعض العملاء، بناء على معلومات الرصد، وكان التحقيق يسلم إلى التنظيم، حيث يشكل لجنة تكون معنية بإصدار القرار الذي يسلم للتنظيم ليصدق عليه حتى يعتبر نافذاً.
طبيعي أننا لم نأخذ الشكل التنظيمي الموجود في الخارج، فكانت الغرفة هي وحدة الشكل التنظيمي، وبالنسبة لأعضاء اللجنة المركزية للتنظيم فكانوا حسب الكفاءة، ولا يهم أن يكونوا في غرفة واحدة، لكن المهم أن يتوزعوا ليتمكنوا من الإشراف على العمل.
ويذكر أنه في تاريخ 196911 كان أول احتفال بعيد انطلاقة الثورة المعاصرة نحييه في سجن نابلس، وفي كل الغرف تلى البيان التنظيمي، بيان الثورة، وأعطيت الكلمات لمن عنده القدرة على التعبير، وبعد إلقاء الكلمات بدأت الأغاني والدبكة، لقد كان احتفالاً حقيقياً شاركت فيه كل الفصائل الموجودة في سجن نابلس، واستمر إلى ما بعد منتصف الليل، ولقد فوجئت إدارة السجن بما يجري، وإن كانت لم تعرف الحقيقة كاملة.
ويمكن القول أننا نجحنا إلى حد كبير في مسألة خلق الكادر، وقد لمع بعضهم فيما بعد في مجال العمل الاعتقالي تنظيمياً وأصبح له دور كبير؛ كما أحيينا في السجن ذكرى معركة الكرامة والأول من أيار نفس العام، وبعد الانتهاء من هذا الاحتفال أخذت إلى الخليل حيث ستكون الجلسة الثانية للمحكمة.
في القانون الإسرائيلي لا تحق الزيارة للموقوف إدارياً، أم الموقوف في المحكمة، فمن حقه أن يطالب بالزيارة لكنهم رفضوا طلبي في البداية فأعلنت الإضراب عن الطعام والماء وبعد 48 ساعة من هذا الإضراب بدأت أوضاعي الصحية تسوء لكنني بقيت متماسكاً على الرغم من ضعف بنيتي العام، ولم يستجيبوا في اليوم الثالث، ومر يوم وليلة، حيث غدوت مهدداً بالنهاية، فاستدعيت إليهم، وبينت أنني أطالب بالحق الذي يوفره لي القانون أو أن عليكم أن تغيروا قانونكم، وهددوني بالزنزانة فهددت بمواصلة الإضراب حتى الموت، فأخذوا يماطلونني، واخيراً قال لي الطبيب سأتصل بأهلك ليحضروا، فأعطيته رقم الهاتف، واتصل، وكان أن رأيت أهلي، وزوجتي لأول مرة بعد عام ونصف من سجني، وكنت قد فككت إضرابي..