أبـو علـي شـاهـين.. الحلقة السادسة الأمراض تغزو المعتقل

بقلم: خالد عز الدين

خامساً: الأمراض تغزو المعتقل
يعاني المعتقلون خاصة من ذوي المدد الطويلة، من العديد من الأمراض المنتشرة في أوساط المعتقلين كأمراض الروماتيزم والقرحة والديسك على سبيل المثال، ويندر أن يوجد واحد من المعتقلين القدامى دون أن يكون مصاباً بواحدة او أكثر من تلك الأمراض أو غيرها، وإن ضيق المكان ومحدودية الرؤية وانغلاق كل شيء حول المعتقل أوجد أمراض العيون، مرض ذبابة العين، كما أوجد أمراضاً سمعية في الأذن، عدا عن مرض البواسير الناتج عن البرودة والنوم على الأرض، وأمراض الكلى، التي تسبب آلاماً حادة لا تطاق، والمسالك البولية والجلدية ، والأمراض الخاصة بالنساء، حيث الافتقار إلى أدنى حالات العلاج، ولعل المرض الرهيب في السجن هو مرض تساقط الأسنان، الذي بدأ يتزايد في أوساط المعتقلين، وينجم هذا المرض عن نقصان الغذاء، فالحياة في المعتقل هي شكل من أشكال المجاعة الدائمة، ويتم كل ذلك في غياب كامل للعلاج، سوى الخلع الدائم للأسنان، فالعيادة مفتوحة فقط لا لعلاج هذه الحالات، بل لاستئصال الأسنان فقط، كما يهدف المعتقل بشكل عام إلى استئصال إرادة وحرية السجين.
ولأننا في السجن لا نعرف الماء الساخن والصابون، فقد انتشرت بيننا الأمراض الجلدية الغريبة، ولا نعرف من أين جاءنا القمل، كمرض قمل العانة الذي يدخل تحت الجلد، ويسبب آلاماً مبرحة كما يسبب أمراضاً جنسية أيضاً، مما أشاع الرعب في أوساط المعتقلين، واستنفر الجميع لمواجهة هذا الخطر الداهم، وقد خلف وجود هذا القمل على السجين أن يظل دائم الحك في جلده، فكنت ترى كل من في السجن وفي وقت واحد يحكون جلودهم كأنهم في سباق منظم، وكانت كل الأمراض الأخرى تبدو هينة بالقياس لهذا المرض الأليم، وإذا ما تعرضنا إلى الأمراض النفسية التي تواجه المعتقل في السجن لشاهدنا إلى أي مدى يتجرد العدو الصهيوني من أية نزعة إنسانية، غير نزعة القتل والتدمير الوحشي، لقد أدخلوا علينا ذات يوم رجلاً فاقد الذاكرة، لا يعرف من هو، ولا أين كان، أو أين هو، لا يعرف أو يذكر شيئاً، ومع هذا بقي في المعتقل، وإذا ما خرجت إلى ساحة السجن فسترى ألواناً كثيرة من الانهيارات العصبية بين المساجين، فلا أحد يعنى بهذه الحالات، لا أحد يسأل عن أحد، ألم نقل أنه الموت المنظم، أنه حكم الإعدام الطويل التنفيذ علينا، هل رأيت طبيباً أو ممرضاً يحمل هراوة؟ رأيت ذلك في إضراب سجن نفحة، كان اسمه «فيلمتن» وهو الآن مدير مستشفى الرملة، هذا الطبيب حمل الهراوة وضربني وضرب آخرين، ووضع الكلبشات في أيدي المساجين، وكان يطعم المضربين عن الطعام بالأنبوب، وبدل أن يضع الأنبوب في المعدة كان يضعه في الرئة، هكذا قتل علي الجعفري وراسم حلاوة، وإسحاق المراغي، كما قتلوا في السجن عمر شلبي الذي هددوه بالعمل معهم، فأتلف عدداً كبيراً من المكاوي، وقد مات تحت التعذيب، لقد قتلوه بوحشية، وشارك هذا الطبيب مع زبانيته في القتل، بالعصي والهراوات، وحين نقل إلى معهد التشريح في أبو كبير، صدر تقرير أنه مات في ظروف طبيعية، هذا التقرير مقدم من قاض وطبيب إداري بحيث لا يمكن نقضه، هذا هو القهر الحقيقي، وهذا هو عدونا، كم من الحالات الشبيهة يمكن سردها، هناك قاسم أبو عسكر الذي استشهد تحت هول وقساوة التعذيب، هناك فريز سهيل الذي علقوه بحبل وقالوا إنه انتحر بشنق نفسه.
كان حمزة وطنياً ومثقفاً، أعني حمزة أبو شعيب، بعد اعتقاله شعر بآلام حادة، ولكن أطباء المعتقل ما أفادوه في شيء ، فظل مجهول المرض، لا أحد يعرف علته، وكان حمزة لا يتوجع لكنهم في النهاية أخبروه أن هناك احتمال قرحة في المعدة، لثلاث سنوات وحمزة يتعذب، والنتيجة أن هناك شيئاً غير معروف؛ كان حمزة يجيد العبرية إجادة كاملة، ويخفي ذلك، في أثناء فحصه اقترح أحد الأطباء إعطاءه الدم، لكن طبيباً آخر رد عليه قاءلاً: إن عالجناه سيعود في يوم ما لإطلاق النار علينا، فقال الطبيب الأول: إن علينا أن ننقذ حياته فهذه مهمتنا، فرد ثانية: إنقاذ حياته يعرضنا للخطر، كان حديثهما بالعبرية، وهكذا قرروا عدم إعطائه الدواء أمام مسمعه، هو الذي بدا أنه لا يفهم شيئاً من نقاشهم.
مرة تقابلت مع حمزة في المستشفى، كنت أراجع بسبب آلام المعدة والظهر، وكان هو يسعى لمعرفة مرضه، كان هناك الطبيب «كوهين» وطبيب السجون ذو الهراوة «زيكل بون» حيث أخبراه أن لا شيء جديداً، كان هناك أيضاً طبيب روسي يدعى «شولانسكي» ، كان معنياً بالأمور السياسية والاجتماعية، ومتفهماً، أخذته جانباً وقلت له: هل يصح ما تراه من عنصرية وقتل متعمد للعربي؟ فقال لي بتعاطف إنه كان صهيونياً حتى جاء إلى «إسرائيل» ليكتشف أنهم كذابون ودجالون، لقد حوّل هذا الطبيب حمزة للفحص، وطلب مني أن أراقبه في السجن وإذا ما لاحظت ظهور ورم ما عليه أن أخبره بسرعة، وبينما كنت أساعد حمزة في الحمام وهو يغتسل لاحظت تورماً في بطنه، فسارعت إلى إخبار الدكتور، فأخذه إلى المستشفى، حيث جرت له عملية تفتيش، وأخبرني الطبيب أن حمزة مصاب بسرطان في القولون، وأنه لن يعيش طويلاً، ذلك أن مرضه في مراحله الأخيرة، وكان يمكن أن يعيش لو تم اكتشاف المرض قبل أن يستفحل، قلت للطبيب من المسؤول عن ذلك قال : الأطباء الإسرائيليون وأنا منهم.
هذه هي اللامبالاة، والقتل المدروس، إذن سيموت حمزة، وستعمل الإدارة على إبعاده إلى أهله، قلت لا بأس فليمت بينهم، كان حمزة ذي إرادة عالية، لقد أخفينا عنه نوع مرضه، قال لي سيخرج ويشفى ولا بد أن يعود ليقاتل من جديد، لم يكن يعرف لماذا يتآكل جسمه، وما الذي يزيده نحولاً، حين دخل المعتقل كان يمتلئ صحة وعافية طويلاً مثل نخلة، ويزيد وزنه على 85 كجم، وإذا بالمرض يهدّه ليغدو مثل شبح، شبح هزيل.
وحين كان يرى نظراتي إليه، كان يقول لي: لا يهمك يا رجل، حتى لو كان مرضي السرطان، سأشفى وأعود للقتال، لقد أخرجوه من السجن يموت؛ رأيته بعد ذلك في المستشفى، كان يشد علي يدي بوهن ظاهر، لكن بكل قوته كأنما يقول كلماته الأخيرة، كأنما يودعني، كان يبدو فرحاً لرؤيتي قبل أن يموت، قال يومها الفلسطيني كالشجرة، يموت وهو واقف، كم كان عنيفاً وملتزماً وجلوداً، ولكن حمزة مات، وهو على السرير، وقتلوه قبل ذلك في المعتقل، حينما تركوه للسرطان ينهش أحشاؤه .
سادساً: في سجن عسقلان
يطلق عليه الإسرائيليون سجن شيكما بمدينة أشكلون، بينما يطلق عليه الفلسطينيون سجن عسقلان لأنه يقع في مدينة عسقلان القديمة والمسماة بالمجدل، ويقع السجن حاليا وسط المدينة الإسرائيلية السكان، والتي تبعد 20كيلو إلى الشمال من مدينة غزة، وثمانين كيلو إلى الجنوب الغربي من مدينة القدس.
انشأ سجن عسقلان في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين كمقر لقيادة الجيش البريطاني في المنطقة، واستعمل كسرايا لاستقبال الوفود البريطانية الرسمية، ويذكر مراسل صحيفة الهيرالد تريبيون أنه تحول لسجن لاعتقال المجموعات التي قامت بمقاومة الانتداب من العرب واليهود على حد سواء.
وفي عام 1968 ناقشت الكنيست الإسرائيلية أوضاع الأسرى الفلسطينيين، واتسم نقاشها بالتطرف خاصة قضية زيادة عدد المعتقلين نتيجة تزايد أعمال المقاومة، وبدأ العمل على تهيئته من مركز شرطة إسرائيل بالمدينة إلى سجن، وبالفعل تم افتتاحه يوم 1969/2/11 بإرسال أول دفعة من المعتقلين إليه وهي خمس وثمانون أسيراً.
اعترفت مصلحة السجون أن هدف إنشاء هذا السجن هو الحد من «الزيادة في الأعمال الإرهابية التي قام بها السكان العرب مما دعا إلى افتتاح منشأ حبس لهؤلاء المخربين»، و قد شددت إدارة السجن معاملتها للمعتقلين مما أدى إلى اعتبار الفلسطينيين إن فتح هذا السجن جاء ليؤدب المعتقلين.
يتكون سجن عسقلان من عدة أبنية كل منها في طابقين ويسمى قسماً، ويتألف السجن من أربعة أقسام في كل قسم خمس غرف، و كل منها يطل على ساحة مربعة الشكل إضافة إلى بناية للخدمات وبناية أخرى لإدارة السجن، في حين تتعامل إدارة السجن على تقسيم السجن لأحد عشر جناح، ويتسع لستمائة وخمسين سجين، وهذا ما يوضح حالة الازدحام الشديد في هذا المعتقل والتي وصلت ذروتها عام .1976
يعتبر سجن عسقلان حتى مايو 1985 من أكثر السجون التي تضم معتقلين ذوي أحكام عالية فغالبيتهم محكوم عليهم أكثر من خمسة عشر عاماً، وهذا ما يفسر أقوال وزير الشرطة الإسرائيلي شلومو هليل عندما وصف المعتقلين في سجن عسقلان بأنهم « قد اقترفوا جرائم قتل و تخريب ضد إسرائيل عندما كانوا أحراراً وهم اليوم يلقون على إسرائيل القنابل الدعائية «.
استطاعت إدارة سجن عسقلان السيطرة جيداً على المعتقلين في بداية فتح السجن، فقد كانوا منقسمين إلى تجمعات حتى داخل التنظيم الواحد أو حسب الطوابق، ما أدى إلى زيادة الإجراءات ضد المعتقلين، فقد كان يدخل مدير السجن ويدعى حيوت إلى الغرف ومعه كلبه، وكان نائبه يمارس ضرب المعتقلين، وكانت ملامح المرحلة الأولى من حياه المعتقلين في السجون تنطبق على معتقلي سجن عسقلان.
خاض المعتقلون الفلسطينيون في سجن عسقلان العديد من الإضرابات عن الطعام وذلك بهدف تحسين ظروف حياتهم، فقد خاضوا إضراباً عام 1970 استمر لمدة واحد وثلاثين يوماً، تكبد خلاله المعتقلون شهيداً واحداً هو الشهيد عبد القادر أبو الفحم والذي قتله الطبيب أثناء إدخال الأنبوب في فمه رغم علم الطبيب أنه مريض حيث اعتقل جريحاً بعد اشتباك مع القوات الإسرائيلية، وكذلك خاض المعتقلون إضرابا عن الطعام عام 1971استمر ما يزيد عن خمسة وعشرين يوما، وتم تعليقه لمدة يومين ثم أعاد المعتقلون الإضراب عشرين يوما أخرى، وكذلك أضرب المعتقلون عام 1976 لمدة خمسة وأربعين يوما، وكان إضراب عام 1977 عن العمل لينهي قضية إلزام المعتقلين بالعمل في المرافق المختلفة.لقد تعرض سجن عسقلان لكثير من المداهمات والاعتداءات التي كانت تنفذها مصلحة السجون ضد المعتقلين الفلسطينيين، فقد استشهد الأسير عمر السليبى عندما انهال عليه مدير السجن حيوت ضرباً حتى الموت عام ,1973 وكذلك اقتحام السجن كله ورشه بالغاز المسيل للدموع في 1981/12/11 رداً على قيام المعتقلين الفلسطينيين برفع الإعلام الفلسطينية وترديد هتافات ضد إسرائيل داخل السجن، وتم عقاب كل المعتقلين بحرمانهم من الزيارة أو الشراء من دكان السجن، وتقليص ساعات الفسحة إلى ساعة واحدة، وتقليص عدد عمال النظافة ومنع إدخال الفواكه
و الخضروات.
في عام 1985 هاجمت الشرطة الإسرائيلية السجن، مستغلة الإفراج عن قياداته ضمن صفقة تبادل الأسرى مع منظمة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة، فقامت بإطلاق الغاز المسيل للدموع والاعتداء على المعتقلين بالهراوات مما دفع المعتقلين إلى حرق الغرف، وكرروا إضرام النار في غرفهم مرة أخرى في نهاية عام .1985
سابعاً: الإضراب الأسطوري عن الطعام في سجن نفحة الصحراوري عام 1980
يرويها الاسير المحرر عبد الرحيم النوباني: يقع سجن نفحة الصحراوي في صحراء النقب بجنوب فلسطين ويبعد 115 كم إلى الجنوب من مدينة بئر سبع، وحوالي 200 كم جنوب القدس، ويسمي سكان النقب البدو هذه المنطقة بقصر الغزال نسبة لأثار قديمة بهذا الاسم، وتسمي إسرائيل تلك المنطقة متيسبيه رامون وبها مطار عسكري بهذا الإسم.
افتتح هذا السجن في الأول من مايو أيار ,1980 وكانت فكرة إنشائه تعود إلى عام 1976 سنة الذروة في قضية الازدحام ومطالبة المعتقلين والصليب الأحمر المتكررة للسلطات بحل هذه المشكلة، ولكن افتتاح سجن يتم نقل خمسة وأربعين معتقلاً إليه لن يحل مشكلة ازدحام يعاني منها الآلاف، لكن افتتاحه كان يهدف إلى عزل قادة المعتقلين أو ما تصنفهم إسرائيل بالخطرين، فبعد عدة أعوام من افتتاحه اعترفت إدارة السجون بأن إنشاءه كان لسد الحاجة لحبس السجناء الأمنيين الخطرين وعزلهم عن المراكز السكانية.
أشرف على التخطيط الهندسي لهذا السجن معهد الهندسة التطبيقية التخنيون، والذي يخطط للمشاريع الكبرى في إسرائيل، وعليه فليس من المعقول بأن بناءه بمواصفات سيئة بالنسبة للمعتقلين كالاختناق وقلة التهوية أن يكون محض صدفه أو إهمال بل إنه صمم على أيدي علماء الهندسة في إسرائيل؛ حيث وصل الحرص الأمني لحراسة هذا السجن إلى أعلى درجة في التصنيف الأمني الإسرائيلي، و هو غير موجود في أي سجن آخر، وأن هذه الدرجة تشبه تلك التي توضع فيها منشآت البرلمان و مجلس الوزراء والمنشآت الحيوية جدا.
كان السجن يضم قسمين، كل قسم يضم خمس عشرة غرفة، يبلغ مساحة الواحدة منها 650سم 350 سم وارتفاعها 260سم، وتحت السقف مباشرة يوجد ست فتحات للتهوية طول كل منها 65سم وعرضها 12سم، أما الباب فهو مقفل تماما وهو من الصاج بدل القضبان، وفى وسطه فتحة طولها 20سم وعرضها 20سم، وتبقى مغلقة طوال الوقت والسجان وحده يفتحها من الخارج، ويقع في الغرفة مرحاض يستعمل لقضاء الحاجة وتنظيف الأواني وكل ما يخص النظافة.
أثار افتتاح هذا السجن بهذه المواصفات حفيظة الرأي العام الإسرائيلي، وهذا ما وجد تعبيراً له من خلال ما نقله مراسلو صحيفتي هأرتس وعل همشمار عما رأوه في ذلك السجن، وتأكيدهم أنه فرض على المعتقلين أن يبقوا في غرفهم ثلاثاً وعشرين ساعة، ولا يسمح لهم بالمشي إلا ساعة في غرفة مقفلة طولها سبعة أمتار وعرضها أربعة أمتار في الوقت الذي كان يعاني غالبيتهم من أمراض القلب، و قد رأتا هاتين الصحيفتين بأعينهم العقارب والأفاعي داخل غرف السجناء.