باركنا توقيع اتفاق المصالحة الفلسطينية الأول في القاهرة والتأكيد عليه في الدوحة ،كما رحبنا بلقاء مخيم الشاطئ الذي عكس إرادة في البدء بتنفيذ بنود المصالحة ، وكانت مباركتنا مبنية على رؤية واقعية سياسية مريرة للحال الذي وصلنا إليه كفلسطينيين بسبب الانقسام وما آل إليه وضع قطاع غزة من تدهور نتيجة تضافر عوامل داخلية وخارجية،أيضا تلمُسنا لمأزق المفاوضات والسلطة الوطنية . كنا وما زلنا نؤمن أن الخروج من مأزق الانقسام والمفاوضات وحالة التيه السياسي يتطلب إستراتيجية واقعية متعددة المسارات تؤسَس على التدرج في نهج تفكيك المشكلات وخصوصا الانقسام حيث من الصعب إنهاء الانقسام بضربة واحدة قاضية لأن الانقسام وتداعياته ليس محصلة خلاقات فتح وحماس فقط بل أكبر من ذلك وأعمق،وبالتالي رأينا أن البدء بالاتفاق على تشكيل حكومة قد يساعد على تهدئة الأوضاع بين فتح وحماس مما يسمح بتفكير عقلاني مشترك للخروج من المأزق الوطني العام .
ولكن ، وحتى لا تخدعنا المصطلحات والمسميات المراوِغة وحمالة الأوجه ، وحتى لا ننزلق لمزيد من التنازلات السياسية لصالح إسرائيل ولشروط تسوية لم نحصد منها حتى الآن إلا مزيدا من ضياع الحق والأرض ... لذلك يجب أن نكون واضحين وصريحين مع الشعب حول ما يجري بشأن ترتيبات تنفيذ بنود المصالحة وتشكيل حكومة التكنوقراط ، من جهة تبديد الوهم بأن المصالحة تحققت بمجرد تشكيل الحكومة ، أو أن برنامج حكومة التكنوقراط يعبر عن الثوابت والتوافق الوطني ، لذلك يجب التنويه إلى :-
1) المصالحة انطلقت من موقع ضعف وفشل طرفي الانقسام .
إن المصالحة التي يتم الاشتغال عليها لم تنطلق من منطلق القوة عند الطرفين بل من منطلق الضعف وبعد فشل كل طرف في تمرير نهجه وإنجاح مراهناته السياسية ،وفي هذا السياق نلاحظ تزامن وقف المفاوضات ومأزق السلطة مع الفشل المعمم لحركة حماس بعد ثورة 30 يونيو المصرية وسقوط حكم الإخوان ، وبالتالي كان كل طرف يريد أن يخرج من مأزقه ويحافظ على وجوده في السلطة والسياسة مع تقديم تنازلات متبادلة . لو أن المصالحة جاءت بعد أو متزامنة مع نجاح المفاوضات والتسوية ومع نجاح حركة حماس في خيار المقاومة لكانت مصالحة تعزز الحقوق والثوابت الفلسطينية وتجعل الموقف الفلسطيني أكثر قوة في مواجه إسرائيل العدو المشترك،ولكن وحيث إن المصالحة جاءت في ظل مأزق الطرفين الفلسطينيين فإنها ستكون في البداية مصالحة خروج من مأزق بالنسبة لكل منهما ، مع الأمل أن يكون هذا مقدمة للمصالحة الإستراتيجية لمواجهة إسرائيل،حيث لا قيمة لمصالحة وطنية إن لم تؤسِس لإستراتيجية مواجهة مع إسرائيل لاستعادة الحق المسلوب .
2) دور الأطراف الخارجية في تفعيل بنود المصالحة .
لأن المصالحة الوطنية لم تنطلق من منطلق القوة فإن نجاحها في كثير من مراحلها مرتبطا بمواقف أطراف غير فلسطينية:العرب والأمريكيون والأوروبيون وإسرائيل أيضا ،في كافة خطوات المصالحة ، بدءا من تشكيل الحكومة وبرنامجها السياسي ومصادر تمويلها ،إلى إجراء الانتخابات والشروط الإسرائيلية لإجرائها، إلى مرحلة إعادة توحيد الضفة وغزة في إطار حكومة وسلطة واحدة سواء كانتا لسلطة حكم ذاتي أم للدولة الفلسطينية المستقلة . ومن يقرأ التصريحات الأوروبية والأمريكية المرحبة بالمصالحة بتحفظ سيلمس شروطا في ثنايا الترحيب.
3) دور مصر في تحريك المصالحة للخروج من إحراج إغلاق معبر رفح .
يجب عدم تجاهل الدور والشرط المصري فيما جرى في لقاء مخيم الشاطئ ،فسرعة التفاهم على البدء بتنفيذ المصالحة يعود لما حمله معه من مصر السيد نائب رئيس المكتب السياسي لحماس موسى أبو مرزوق وليس ما حمله معه السيد عزام الأحمد القادم من رام الله . ونعتقد أن من الأهداف الرئيسة لتشكيل حكومة فلسطينية هو التجاوب مع المطالب المصرية بإيجاد مخرج لمشكلة وجود حماس كحزب حاكم في غزة وتداعيات ذلك على حصار غزة والأمن القومي لمصر والإحراج المصري من استمرار حصار غزة . حتى لو اقتصر الهدف من تشكيل حكومة لرفع الحصار عن قطاع غزة فإنه أمر يستحق الثناء والتقدير .
4) ما كان الإعداد للانتخابات يحتاج لحكومة جديدة .
لا نعتقد أن الإعداد للانتخابات بعد ستة أشهر كان يحتاج إلى حكومة جديدة .ما دام حصل تفاهم وتفهم وثقة بين حركتي حماس وفتح وخصوصا بين رئيس المكتب السياسي لحركة حماس السيد خالد مشعل والرئيس أبو مازن ، وتقدير كل منهما لظروف الطرف الآخر، فلماذا مغامرة تشكيل حكومة جديدة بما يترتب على ذلك من أعباء مالية ، واستحقاقات سياسية خطيرة وخصوصا على حركة حماس وكل من سيشارك في الحكومة؟ كان من الممكن بدلا من ذلك تجديد الثقة بالرئيس أبو مازن وبحكومة الحمد الله وتكليف اللجنة العليا للانتخابات بمباشرة الاستعدادات لإجراء الانتخابات في الموعد المحدد.
ولكن وحيث أن الإعلان عن تشكيل الحكومة بات وشيكا فنتمنى أن لا يؤدي تشكيلها وبرنامجها إلى جر حركة حماس وقوى سياسية أخرى إلى مربع الاعتراف بشروط الرباعية وبمرجعية عملية السلام ، وتتعثر المهام الأخرى للحكومة والمصالحة .
5) في الحالة الفلسطينية كل حكومة هي حكومة سياسية .
لا ندري الحكمة من توافق طرفي المصالحة على أن تكون الحكومة حكومة تكنوقراط ،ولا ندري هل الحالة التي نعيشها تسمح بترف حكومات التكنوقراط ؟ - وقد سبق أن كتبنا عن الموضوع سابقا- . تم تبرير تشكيل حكومة تكنوقراط لأن هذه الحكومة لن تكون سياسية ولن تتدخل بالشأن السياسي وستتكفل فقط بمهمة الإعداد للانتخابات وتسيير الأمور الحياتية وتخفيف المعاناة عن قطاع غزة ! ولكن ألا يتعارض هذا مع الشروط المطلوب من الحكومة الالتزام بها – شروط الرباعية- وهي شروط سياسية والالتزام بها موقف سياسي بجدارة ؟ وهل يمكن لحكومة فلسطينية ألا تكون سياسية ؟.
6) برنامج الحكومة لا يعبر عن الثوابت الوطنية ولا يُلزم إلا الحكومة .
يجب تجنب إسقاط الآمال والأماني المتوقعة من المصالحة كما يراها الشعب كمصالحة تنهي الانقسام وتُعيد توحيد غزة والضفة في إطار حكومة وسلطة واحدة وتستنهض المشروع الوطني كمشروع تحرر وطني، على حكومة التكنوقراط . فإذا كان البدء بتنفيذ اتفاق المصالح يبشر بفرص واعدة لإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية والتوافق الوطني على الثوابت والمرجعيات ،فإن حكومة التكنوقراط تأتي في سياق مختلف أو لها مهام مختلفة وإن كان نجاحها يساعد على تحقيق الأهداف الوطنية. فهذه الحكومة وكما صرح الرئيس أبو مازن ستعترف باتفاقية أوسلو وتوابعها وبعملية السلام وتنبذ العنف ، وكل وزير سيدخل هذه الحكومة سيكون ملتزما بهذه الشروط والتي هي بالأساس شروط (اللجنة الرباعية) حتى تستمر بتمويل السلطة الوطنية.
لا نعتقد أن هذه الموصفات والالتزامات المطلوبة من الحكومة محل توافق وطني، وسيكون من الخطورة أن تكون محل توافق وطني أو تشكل ثوابت وطنية ، ونحن نرى حصيلة اعتراف والتزام منظمة التحرير بهذه الشروط قبل عشرين عاما، وكيف تسعى منظمة التحرير والرئيس للتخلص من تبعات أوسلو والذهاب إلى الأمم المتحدة.
7) لا حكومة بدون برنامج سياسي
انطلاقا مما سبق نعتقد أن معضلة وطنية حقيقية ستواجه الحكومة في صياغة برنامجها السياسي ، حيث من السذاجة الاعتقاد أن هذه الحكومة ستكون بدون برنامج سياسي،فلا توجد حكومة بدون برنامج سياسي . لأن هذه الحكومة،وكل حكوماتنا الفلسطينية، ليست وليدة إرادة وطنية خالصة أو تعبر عنها،بل وليدة ومحصلة عدة إرادات نظرا لأنها تعتمد كليا على التمويل الخارجي وعلى الموافقة الإسرائيلية ولأن إسرائيل تؤُمِن جزءا مهما من مداخيل السلطة،أيضا لأن الحكومة لن تتعامل مع الشعب الفلسطيني في غزة والضفة فقط بل عليها أن تتعامل مع العالم الخارجي ومع إسرائيل ما دامت حكومة سلطة حكم ذاتي محدود . ولذا فإن برنامج حكومة التكنوقراط سيكون غير منقطع الصلة بعملية التسوية والشروط الأوروبية والأمريكية والإسرائيلية ،و عليه لن يكون محصلة توافق وطني خالص .
8) التباس مفهوم (المستقلون ) أو (التكنوقراط) في الحقل السياسي الفلسطيني .
إن كان لا بد من تشكيل حكومة تكنوقراط أو حكومة مستقلين فيجب حُسنَ اختيار عناصرها ،فصفة (التكنوقراط) أو (المستقل) ليست ميزة بحد ذاتها ،بل قد تكون صفة سلبية تعني (غير الوطني) . صحيح أن أكثر من نصف الشعب غير منتمي للأحزاب والنسبة تزايدت في السنة الأخيرة ، وصحيح أن غالبية هؤلاء وطنيون مخلصون لوطنهم ، إلا أن هناك ممن يشتغلون تحت راية المستقلين أو يزعمون ذلك ابتعدوا عن العمل الوطني وارتبطوا بجهات أجنبية وتمرسوا على إثارة الفتنة وانتقاد طرفي الانقسام باسم أنهم (مستقلون) ،وإذا يتسابقون ويلهثون وراء منصب وزير ليس خدمة للمصلحة الوطنية بل لتحقيق أهداف ومصالح شخصية . ومن جهة أخرى وحتى لو كانت حكومة تكنوقراط مؤقتة وبصلاحيات محدودة فإن كل وزير سيمثل فلسطين في كل تحركاته وتصريحاته وفي مأكله ومشربه وملبسه . عليه يجب حسن اختيار هؤلاء التكنوقراط حتى لا يتم تحقير منصب الوزير الفلسطيني والحكومة الفلسطينية وخصوصا أن الحكومة ستكون حكومة الرئيس أبو مازن أو محسوبة عليه حتى ولو لم يرأسها فعليا.
9) الحذر من إفشال الحكومة الجديدة .
إن تشكيل الحكومة مجرد جزئية في عملية المصالحة الوطنية الطويلة والمعقدة ،ومن المعلوم أن كثيرا من القضايا ما زالت محل نقاش أو تم التوصل لتفاهمات أولية ملتبسة حولها كالأجهزة الأمنية والحالات العسكرية وأسلحتها، والموظفون الخ ، وبالرغم من كل الملاحظات والتخوفات التي اشرنا إليها يجب مساعدة الحكومة الجديدة وعدم السماح بإفشالها لأن إفشالها لن يكون فشلا لحكومة بل فشل للمصالحة ككل مما قد يؤدي لانتكاسة خطيرة تكرس حالة الانقسام وتُشرع الأبواب أمام مشاريع وتدخلات خارجية .
10) المعركة الحقيقية ما بعد تشكيل الحكومة
وأخيرا فإن الحكومة القادمة ستكون حكومة سلطة حكم ذاتي ملتزمة باتفاقية أوسلو وتوابعها، وهذا يتطلب استمرار العملية السياسية النضالية على كافة الجبهات ، لأن مشكلتنا الأساسية ليست الحكومة والانتخابات فهذه أمور فُرضت علينا فرضا ولا علاقة لها بدمقرطة الحياة السياسية بقدر ما هي جزء من مؤامرة حرف الشعب الفلسطيني عن مسار حركة التحرر ودفع مكوناته السياسية للصراع على سلطة وهمية . وعليه يجب التفكير بالمسارات الأخرى كالمقاومة الشعبية وفرض الدولة الفلسطينية على أرض الواقع ، والاستعداد لجولة جديدة من المفاوضات قادمة لا محالة ستكون أكثر صعوبة وخطورة من كل الجولات السابقة .