والداي أميان لا يقرأن أو يكتبان، لكن كان لهما مدرسة وأسلوب خاص في ترسيخ وتأكيد مفاهيم عدة في وجدان الطفل المقتات من ذاكرة حية، تنبض دومًا بالهم الوطني الجمعي الذي يتناول الوطن كقوتٍ وقضيةٍ أشمل وأعم, كإنعكاس موضوعي للحالة الوطنية المؤمنة بحتمية التضحية، وحتمية إنعاش الذاكرة، وخاصة للطفل الذي عليه أن يعايش ويواكب النكبات بتفاصيلها وشجونها ومؤثراتها، وأن تأريخ الفكرة بالعمل والممارسة تعبير عن حيوية الفكرة المنبعثة من" فدائي"، " عودة"، " هوية"، " تقرير مصير"، " حرية"، " ايمانية النصر"، " تمكين وثبات"، "إصرار على الاحتفاز بقوشان ومفتاح الأرض والبيت"، وحواديث عن الأغنام والأرض والرعي، وكروم الفواكه والبرتقال، والخير في أرض انعزلت عن الجسد، لكنها لم تنعزل عن الروح. لم يكن لدينا ديوان موظفين، ومالية عسكرية، وجمعيات خيرية وأهلية ومدنية، أو مؤسسات تطوير مجتمعي، أو منتديات ثقافية، كان لدينا مفتاح ولجن وصابونة نابلسية، وملابس يحصلوا عليها من مراكز وكالة الغوث تذكرهم دومًا بأنهم لاجئين، ماركاتها شعبية، قماشها خشن بخشونة ألمهم ووجعهم بالبعد عن الأرض، المنزل، البيارات، وكان حجم استدراكهم جيش الشقيري، وجيش التحرير، والفدائيين، هم الفعل المحرك والناظم لثقافة العلاقة بين الطفل والأرض، بين المُقتلع والمِقتلع، هي الفعل المخضب بتأرخة الحكاية والتغريبة التي تؤكد على" الوطن"، وتتجاوز باهمال وتناسي سواه، فكان تدريب فاعل وهادف لمعاني النكبة والنكسة، وغيرهما.
لم نحتفي أو نحتفل بعيد الأم، وعيد شم النسيم، بل كان لنا حكاية تُعزف على جدران غرف نومنا التي نتكدس بها كبنيان مرصوص، صورة لا زلت معمدة بتربيتنا" طفلٌ صغير شاحب الوجه ناظر النظرة مزدانه بعبارة واحدة" " عيدنا يوم عودتنا"، وعلى الجهة الأخرى صورة للزعيم جمال عبد الناصر تحتها " ما أخذ بالقوة لا يسترد إلَّا بالقوة"، فكانت النكبة حاضرة وحية في كل تفاصيل حياتنا، ولحظاتنا، متداولة على مدار دقات الثواني في عقرب الزمن الحي بذهنية طفل، لم يرَ ولكنه يعيش النكبة.
لا فضاضة في انبعاث الجدلية التاريخية العمدية في عبقرية البسطاء، وتحديد بوصلتهم الفطرية المعمقة بايمان حتمي لا ينتمي للمكننة الذهنية أو إنبعاثية التغريب والتغييب الممنهج، وقصائد الحماسة تصدح في دواخل من زهدوا بالحياة، وتزودوا بفلسطين.
فالعقلية الجمعية، والوعي الجمعي حُدد وفق مسار واتجاه أوحد في الأفق الوطني الأبعد، من أوفق الوظيفية الفردية والمراتبية التي دُست في فضاء أمة عربية لم تَعد تستذكر سوى حوائج أمعائها، وتضليل فقهائها، وغيبوبة مثقفيها، وشعب صاحب قضية لم يعد حاضر في ذاكرته سوى عبارات مقتبسة من فعل الفعل المؤثر بالأمعاء، فتردد صدى " عن اي وطن تتحدث؟"، "هل لا زلت لليوم تؤمن بهذه الخزعبلات؟"، " عن أي نضال وتضحية؟"، " من يمت تروح بكيسه"، هي الاستبدالية الطارئة لـِ" عيدنا يوم عودتنا"، " نموت وتحيا فلسطين"، " فلسطين من البحر للنهر"، فأصبحنا نردد بكل ثبات تحت مبدأ الاعتراف بالواقع، "إسرائيل" واستبعدنا" الكيان الصهيوني"، فنمت طحلبية الذاكرة، وهاجرت ثبات القناعة، وانحنت الأشجار الباسقة من صفحات التأريخ الوطني.
ست وستون عام من النكبة - ولا زالت- وإن كان التاريخ هنا ليس منصف أو حقيقة، حيث أن ارهاصات النكبة الفعلية بدأت منذ وعد بلفور 1917، والتدحرج حتى رسم معالم النكبة على لوحة اقتلاع شعب من أرضه، ومنحه خيمة لجوء، ووثيقة موشحة بالتشتت في دهاليز النفي الدائم، ليتحول مع التراكية التراجعية إلى فعل كرنفالي تتبادل به خطابات الاستحياء، ورفع العتب، والتزويق اللغوي، والتجميل في الحماسية، وعرض أزياء للوجوه، المتلونة، اللامعه في عقلية الإنحسار والإندثار المعبأة بالفردية والحزبية، لا ترى أبعد من تمرير تجهيلي لعقلية أصبحت معطوبة بفعل عوامل الإعطاب المستدعية لحقن الفعل الشعبي المتحول من العيش بنكبة إلى أعياد عيد الأم، وشم النسيم، بعمق أكثر وأكبر من عمق مفهوم النكبة والنكبات الوطنية بمجملها التأريخي العام.
ففي كل مسجد تعقد حلقات الذكر والتحفيظ، وفي كل جلسة حزبية تعقد حلقات التجهيل الضيق بالتنظير الحزبي، وفي الأمسيات الأسرية تتعارك القوتين المثقفتين "الأب والأم" حول جدلية الحزبية وتفاعيلها، وفي المدارس تتلون هوية المدرس الحزبية، فحضرت السكرة وغابت الفكرة ضمن حدود العقل "لجيل تخدج".
توسعت لدينا مراكز الأبحاث والدراسات منها الاستراتيجية ومنها غير الاستراتيجية، وتعددت مشارب وهوامش الهويات الأدبية، وتنوعت المعطيات في ظلّ التطور التكنولوجي، فأصبح لدينا حضور في جسد البنى التحتية الظاهرية، ولكن غاب الوعي الجمعي، فغابت عن الأرض الأفعال، ورددت الأجيال أغنيات الهامشية المغيبة، واستحضرت افلام الأكشن، وغابت أفلام الانتماء.
فالعبء شمولي والمسؤولية جمعية، تتطلب استدعاء أرواح الماضي ونسجها مع الحاضر، لنحيك مستقبل متفتح القرائح في ذاكرة أجيال استهلاكية أكثر منها انتاجية.
د. سامي محمد الأخرس
السادس عشر من مايو ( آيار) 2014
[email protected]