في المجتمعات القائمة على العشائرية والقبلية،وفي حالة غياب الوعي الوطني والإنتماء للوطن،والفقر النظري والخواء الفكري،وتكلس و"تنمط" القيادات وعدم قدرتها على الإنتاج الفكري والنظري،وتشكيل قوة مثل تحديداً في الجوانب السلوكية والمجتمعية والحقوقية،ترى بأن أغلب المثقفين ينتمون للعشيرة والقبيلة وليس للوطن،وبالتالي من الصعب ان تخلق ثقافة وطنية وانتماء وطني،وترى بأن الأحزاب والفصائل التي تحمل برامج وطنية تحررية وديمقراطية إجتماعية،وحتى الأكثر يسارية وديمقراطية فيها،على صعيد الممارسة والتطبيق،ليست بعيدة عن القوى والأحزاب المصنفة طبقياً على انها تمثل البرجوازية،ففي إطار الممارسة تجد بان المثقف او السياسي لا يخرج عن إطار العشيرة وفي الشكل الأكثر تطوراً عن الحزب،وهنا يجب التركيز على ان منهج التفكير والعقلية مبني على التعصب للذات او الفئة التي ينتمي اليها المواطن العربي مما يفقد الانسان الموضوعية وتغيب لغة الحق والعدل ويحل منطق القوة محل قوة المنطق .... الآخرون دائما على باطل وانا وفئتي او حزبي دائما على حق وسواء كانت الفئة عشيرة او بلدة او حزب سياسي او غيره فالعقلية هي ذاتها ومنهج التفكير هو ذاته ... وحتى المثقفين الذين يدعوا انهم يتبنوا المنهج العلمي في التفكير لا يختلفوا كثيرا عن غيرهم في طريقة تفكيرهم ... اعتقد ان الفصائل حتى اليسارية ارتكبت خطأ قاتلا حين ركزت على "التربية الأيدبولوجية " واهملت " التربية السلوكية " اعتقادا منها ان الاولى ستحدث تغييرا تلقائيا في الثانية ... انا لا ارى فرقا جوهريا بين من يقول بالتعاليم الدينية كمصدر وحيد للتشريع وبين من يقول بالمادية الجدلية والمنهج المادي كمصدر ومنهج للتفكير والتحليل،اذا كان منهج التفكير والسلوك والنفسية هي ذاتها .... ان العيوب التي في داخلنا (ولا اعمم بالمطلق ) اكثر بكثير من العيوب الموجودة في اي فكر او دين ولا شك ان مثقفينا بحاجة الى اعلان ثورة ثقافية على الذات اتمناها اكثر راديكالية من الثورة الثقافية التي حدثت في الصين او جنوب شرق آسيا او امريكا الجنوبية ... ثورة اعتقد اننا بحاجة اليها من اقصى يميننا الى اقصى يسارنا.
ان المشكلة تكمن فينا،في ذواتنا،بحيث لم نستطع التخلص من امراضنا وأزماتنا ورواسبنا الإجتماعية،بحيث يكون هناك إنفصال وانفصام كبيرين بين ما نقوله وندعي ايماننا وقناعتنا به وبين التطبيقات على أرض الواقع،وفي كثير من الأحيان عندما يتقاعس المثقف او الثوري او الوطني عن اخذ دوره فنراه يستسهل الحل العشائري ويبدو اكثر المنظرين والداعين له حتى لا يتحمل مسؤولياته.
نحن في مرحلة كارثية تزداد قتاماً وسوداوية مع انتشار الأفكار التكفيرية والإقصائية والمعتقدات الغيبية والدروشة والسطلان فهي أصبحت تنتشر في المجتمع العربي وكذلك على صعيدنا الفلسطيني إنتشار النار في الهشيم،وهي تهتك وتفكك وتدمر النسيج الاجتماعي وتعيد المجتمعات العربية الى مرحلة ليس ما قبل الحداثة فقط،بل ما قبل الجاهلية.
نحن امام كارثة حقيقية مثقفو ليس سلطة فقط يمتهنون التكسب والتملق على ابوابها والتنظير لها،بل مثقفو عشائر وقبائل وحواري وقرى،ومن منهم مثقفا يحمل فكراً وطنياً أو عروبياً هم قلة،محاصرون ومطاردون.
نحن دخلنا في مرحلة الإستنقاع،شمولية الكارثة للسلطة والمعارضة وحتى الجماهير،والخروج من الأزمة التي تتعمق وتتجذر،بحاجة الى رؤيا جديدة وخلاقة،ربما نحتاج الى جراحة،تستأصل وتزيل حتى بالقوة كل الأدران والطحالب التي علقت بالجسد العربي،وأصبحت تحاول ان تتسيد وتتربع على قيادة السلطة والمجتمع،وليس تكرار نفس"الكليشهات" والإنشاء الفارغ،رؤيا وأفكار وبرامج تنتشل المجتمع من الغرق في أوضاع تقوده نحو التفكك والتحلل والتشظي الى عشائر وقبائل،بل الى حمائل وأفخاد ودون ذلك.
لا يعقل أن ينأى المثقفين ويتخلوا عن دورهم وتحمل مسؤولياتهم،ويفتحون الطريق والمجال،لمن هم يقودون المجتمعات العربية،نحو التدمير والقتل والتفكك والظلامية،والدخول في حروب مذهبية وطائفية وعشائرية وقبلية،كما يحصل الأن في اكثر من بلد عربي،كنتاج لما يسمى بثورات الربيع العربي التي كانت بمثابة كارثة بكل معنى الكلمة لمجتمعاتنا العربية،حيث أعادت تطورها الى قبل مائة عام،حيث الدمار والخراب والقتل وفقدان الأمن والأمان وغياب السلطة والدولة المركزية،وتعطيل لغة الفكر والعقل والحوار،ونبذ قيم التسامح والوحدة والتعددية والحرية الشخصية والمواطنة،فهنا لا تتشكل فقط تراتبية اجتماعية جديدة تسيطر على المجتمع،وتفرض رؤيتها وفكرها وتصوراتها عليه جلها من الدراويش والمشعوذين والإقصائيين،بل تعمل بمنهجية وتخطيط على عملية التدمير،في شعار شبيه بالشعار الذي رفعه بوش الأب ومن بعده بوش الإبن،في إطار حربه على الشعوب وقوى المقاومة،الرافضة للنهج والسيطرة الأمريكية"من ليس معنا فهو ضدنا"،وهي ترفع نفس هذا الشعار،لا مكان لمن لا يؤمن بمعتقداتنا وأفكارنا في المجتمع او الدولة.
نعم هي مرحلة إنحطاط بكل المقاييس والمعايير،مرحلة إنهيار وتحلل وتفكك،ولكن رغم كل سوداوية هذا المشهد،فإن هناك إرهاصات صعود وتطور،إرهاصات لإعادة بناء فكر قومي عربي مقاوم،يعيد للعرب هويتهم وتاريخهم ومكانتهم،يجب على كل المثقفين العرب،ممن هم من حملة الفكر القومي العروبي،حمل هموم الوطن والمرحلة،والتصدي لكل من يحاولون فرض هيمنتهم وسيطرتهم على مجتمعاتنا العربية،وبث سمومهم وأفكارهم الغربية عن بيئتنا وحضارتنا العربية،فنجاحهم في مشروعهم هذا يعني،بأن مجتمعاتنا العربية،ستفقد مبررات وجودها كامة عربية،وستكون أمام مشاريع تصفية لها تشظيها وتذررها مذاهب وطائف وممالك،فهل يعي مثقفينا من حملة مشروع القومية والعروبة،حجم المهام والمسؤوليات الملقاة على عاتقهم في مواجهة مثل هذا الخطر.