الانضباط العسكري يحتم على الجنود تنفيذ أوامر قيادتها دون ابطاء او تلكؤ، وفي العرف العسكري يعاقب الجندي الذي لا يلتزم بذلك أو حتى يتخاذل في تنفيذ الأوامر الصادرة له من قيادته، والقواعد العسكرية تختلف عن المدنية فهي لا تعطي الجندي مساحة للاعتراض أو حتى النقاش فيما صدر له من اوامر عسكرية، والجندي لا يتحمل بالمطلق مسؤولية فشل خطة قيادته، اللهم إلا اذا كان ذلك بسبب تقاعس منه في تنفيذ الاوامر الصادرة إليه أو تخاذل في تأدية واجباته المنوطة إليه، والقائد العسكري دون سواه هو من يتحمل مسؤولية النتائج المترتبة على قراراته.
بعد أن سيطرت حركة حماس على قطاع غزة صدرت التعليمات للعاملين بالأجهزة الأمنية من قياداتها بالاستنكاف وعدم الالتحاق بعملهم، وكذلك الحال للعاملين في المؤسسات المدنية للسلطة الفلسطينية من ابناء قطاع غزة، ورافق القرارات سيل من التهديدات بالويل والثبور لمن يخالف التعليمات، وإن كان الأمر يتعلق بتجميد أو وقف الراتب بالنسبة لأصحاب الوظيفة المدنية، فإن مخالفة الأوامر للعاملين بالمؤسسة العسكرية هو أكثر من ذلك بكثير، يتطلب معه جلب المخالف لمحكمة عسكرية حسب المعمول به في كل دول العالم.
رغم اعتراض الكثير من اليوم الأول على قرارات الدعوة للاستنكاف عن العمل، كونها تضر بالمصلحة الوطنية بالمقام الأول وتلحق الضرر كذلك بحركة فتح التي ينتمي الكثر منهم إليها، وأن المواطن الفلسطيني سيدفع ثمن هذه القرارات الارتجالية، إلا أن ملاحقة الموظف في قوت يومه دفع الغالبية العظمى للالتزام بالقرارات الصادرة إليهم.
قبل عدة اشهر اتخذت الحكومة قرارها بوقف علاوة الإشراف وبدل المواصلات عن الموظفين الذين ليسوا على رأس عملهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإن جاء القرار ليشمل شقي الوطن إلا أن الحقيقة أن المستهدف منه هو أبناء قطاع غزة، حيث أن الموظف في الضفة الغربية الذي ليس على رأس عمله من الأولى الاستغناء عن خدماته طالما لا يوجد مانع فوق قدراته يحتم عليه ذلك طبقا لقانون الوظيفة العمومية، لكن الأمر في قطاع غزة جد مختلف، حيث أن الموظف كان على رأس عمله إلى اليوم التي صدرت له التعليمات بالاستنكاف، وهو يتطلع للعودة وتمكينه من ممارسة عمله.
يبدو ان الحكومة الفلسطينية لا ترى أمامها باباً تلج من خلاله لمعالجة أزمتها المالية سوى تقليم رواتب الموظفين في قطاع غزة، حيث أنها بعد ان نجحت في فرض ارادتها هذه على العاملين بالوظيفة المدنية من خلال وقف صرف علاوة الاشراف وبدل المواصلات، يبدو أن خطوتها التالية ستكون بوقف علاوة القيادة للعاملين في الأجهزة الأمنية، ومرة أخرى يخرج قرار الحكومة بظاهره المتعلق بشقي الوطن، وباطنه المتعلق بأبناء قطاع غزة دون سواهم.
يبدو أن اليسير الذي قدمته الحكومة من خلال الترقيات الأخيرة لبعض العسكريين، وهي استحقاق للموظف تأخر كثيراً عن موعده، أرادت أن تسترجعه ومعه الفوائد من اللحم الحي، إن قرارات الحكومة سواء المتعلقة بوقف علاوة الاشراف للمدنيين وعلاوة القيادة للعسكريين هي قرارات "استهبال" تحمل في طياتها ألف سؤال وسؤال تتعلق بالجغرافيا أكثر من اي أمر آخر، ففي الوقت الذي كنا ننتظر من الحكومة معالجة وإنهاء بعض القضايا العالقة وفي مقدمتها تفريغات 2005 جاءت قرارات الحكومة لتفاقم من حجم الاجحاف الذي طال ابناء قطاع غزة.