اليرموك ودمدوم والبحر

بقلم: علي بدوان

هي (ديمة) إبنة شقيقي الأكبر عبد الرحمن (أبو السعيد)، هي من مواليد مخيم اليرموك عام 1987، وشقيقي عبد الرحمن من مواليد شارع الناصرة في مدينة حيفا عام 1946، من رائحة وعبق فلسطين وزعترها وزيتونها. مُتقاعد منذ عدة سنوات بعد مشوار مضني ومُتخم بضنك الحياة، نجح فيه في إنجاب ذريةٍ صالحة.

(ديمة) أو (دمدوم) عندما (نُدللها) هي أخت الرجال، من فلسطينية سوريا، وبالتحديد من فلسطينية مخيم اليرموك ومن حارة الفدائية وحارة الشهيد مفلح السالم، صغيرة في عمرها، كبيرة في أداءها وحُسنِ تصرفها، ورائعة في فرادة تصميمها. حطت أقدامها قبل أيامٍ قليلة وتحديداً يوم الرابع والعشرين من أيار/مايو 2014، الأرض الأوربية في إيطاليا، ومعها صغيرتها (لين أبو راشد) مع مجموعة من فلسطينيي سوريا في طريقهم بإتجاه دولة السويد الشقيقة  (نقولها وبالفم الملآن : دولة السويد الشقيقة) بعد أن ضاقت دنيا العرب على إتساعها بفلسطينيي سوريا، في رحلة آليمة ومؤلمة تختصر بين ثناياها تراجيديا مأساوية لـ "لاجئون يبحثون عن لجوء جديد"، بين هجرة قسرية للأجداد عام نكبة فلسطين من حيفا ويافا وعكا وصفد واللد والرملة وطبريا والناصرة ... وهجرة طوعية إختارها الأحفاد كفسحة أمل وحيدة للهروب من الواقع المرير تحت وطأت الظروف الصعبة المحيقة بهم، في ظل القادم المجهول، فتقطّعت بهم السبل بين وبين، وبين عابرٍ للبحار على ظهر قواربٍ إبتلع البحر بعضاً منها وعلى متنها شباناً في ريعان العمر وعائلات وأسر فلسطينية منكوبة، حيث بات اللاجئ الفلسطيني في سوريا، المنسي في أزمة طاحنة، تناسوه ونسوه، فمن له القدرة على إستيعاب صرخاتِ قهره. 

وحدها (دمدوم) وصغيرتها (لين) من أسرتها كانت ترافقها، عبرت عُباب البحر على ظهر قاربٍ مُتهالك مع مجموعة صغيرة من فلسطينيي سوريا، بإتجاه أصقاع المعمورة الأربع،  لتجتاز محنة  النكبة الجديدة لفلسطينيي سوريا.

وصلت (ديمة) أو (دمدوم) وصغيرتها (لين) دون زوجها (سامر أبو راشد من بلدة طيرة حيفا) والذي ينتظر اللحاق بها، بعد تحدي كبير، هو تحدي الإنسان وصراعه من أجل الحياة والكرامة والآمان والخبز والورد والحرية، بعد أن تم تشريد غالبية مواطني مخيم اليرموك من فلسطينيي سوريا، وتهجيرهم في نكبة ثانية كانت أقسى وأشد مرارة وعلقماً من نكبة العام 1948، عندما خرج الجزء الأكبر من أبائنا وأجدادنا تائهين ضائعين، مجروحين ومكلومين من بلادنا فلسطين، جنة الأرض، وزينة الدنيا وبلاد العالم قاطبة.  

ولكن، رُبَ سؤالٍ يُطرح، هل نَلُومُ من هاجر وأعتلى البحار، أم نقول لهم  لايلام اللاجىء الفلسطيني في الهجرة إلى أصقاع المعمورة الأربع، فالسوري في نهاية المطاف ينتقل بإتجاه اللجوء إلى أحياء مدينته وإلى ضيعته أو قريته وخياراته مفتوحة، أما اللاجىء الفلسطيني فخياراته محدودة، والمجهول قد يكون بإنتظاره.

الفارق بيننا وبين الجميع من لاجئي العالم ونازحيه، أن الشعب الفلسطيني ُطرد من أرضه طرداً وإقتلاعاً وترحيلاً قسرياً، بينما الآخرين لم يفقدوا أوطانهم حيث إن رحلتهم إلى التيه داخل أوطانهم وحتى خارجها ستبقى قصيره .. أما رحلة التيه الفلسطينية فمستمرة نكبة تلو نكبة، وهنا يكمن عُمق المأساة.

الرحيل الإرادي إلى المجهول، أراده البعض ويريده من تأمر على فلسطينيي سوريا أن يكون تلبية للنداء الساحر لقتل حقيقتنا ودفنها هناك، وشطب حياتنا الماضية من أجل ميلاد معتوه في بلاد لا نحسن فيها سوى العيش أكلاً وشرباً وهواء. ولكننا نقول لهم : خسئتم، خسئتم، خسئتم ... نحن لسنا في هذه الدنيا بخالدين، لكن أجيالنا ستولد من جديد في الوطن ودياسبورا المنافي والشتات،  ولن يموت الحلم بوطن مازال وسيبقى أسمه فلسطين.