يحتل مفهوم "الانتخابات الديمقراطية"، عند كثير من الباحثين، موقع الصدارة في النظم الديمقراطية وذلك منذ أن عرّف جوزيف شومبيتر الديمقراطية على أنها مجموعة من الإجراءات والمؤسسات التي يستطيع الأفراد من خلالها المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية عن طريق التنافس في انتخابات حرة. وعلى الرغم من اهتمام الكثيرين بهذا المفهوم عند حديثهم عن الديمقراطية، إلا أنه لا يوجد، حتى اليوم، تعريف متفق عليه بين المهتمين بالانتخابات، أو مجموعة من المعايير القاطعة التي تُحدد معالم الانتخابات الحرة والنزيهة، كما لا يوجد منهجية واحدة يمكن من خلالها وضع مؤشرات محددة وشاملة للانتخابات الديمقراطية.
ليست كل الانتخابات التي تشهدها دول العالم المعاصر ديمقراطية، إذ طور الحكام أساليب عدة للتلاعب في الانتخابات لتحقيق مقاصد غير تلك التي ترجى من وراء الانتخابات الديمقراطية.
أما عبارة "انتخابات حرة ونزيهة"، الشائعة في جُل الدراسات التي تتناول الانتخابات، فقد ظهرت لأول مرة لوصف الاستفتاء الذي تم على استقلال ما كان يُعرف بأرض توغو (دولة توغو في غرب أفريقيا وجزء من دولة غانا اليوم) في عام 1956، ثم راحت منظمة الأمم المتحدة تستخدمها في حالات مشابهه بعد ذلك. وعلى الرغم من الاستخدام الواسع للعبارة، بل وعلى الرغم من الاهتمام الشديد بعمليات المساعدة في إدارة الانتخابات والإشراف عليها ومراقبتها منذ عام 1989، لم تضع الأمم المتحدة تعريفاً متفقاً عليه للعبارة.
ولذا تستهدف هذه المقالة التمييز بين الانتخابات الديمقراطية التنافسية وغيرها من الانتخابات التي لا يمكن وصفها لا بالديمقراطية ولا بالتنافسية. وسيتم ذلك من خلال الوقوف على المحاور الثلاثة التالية:
أولا متطلبات الانتخابات الديمقراطية
تشير التجارب المعاصرة إلى أن الانتخابات الديمقراطية التنافسية لا تجرى إلا في نظم حكم ديمقراطية، أي أن هناك متطلبات للانتخابات الديمقراطية يمكن تلخيصها في مبادئ رئيسية ثلاثة:
1- تنظيم عمل مؤسسات الحكم من خلال الاستناد إلى مبدأ حكم القانون، أي تقييد سلطة الحكومة بدستور يخضع له الحكام والمحكومون على قدم المساواة، ويوفر آليات محددة لصنع القرارات وللمساءلة السياسية ونظام قضائي مستقل لحماية مبدأ حكم القانون وصيانة حريات الأفراد وحقوقهم.
2- تمكين المواطنين من المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية واعتماد مبدأ التداول السلمي للسلطة وحق جميع القوى السياسية في التنافس على مقاعد الحكم، وذلك من خلال الاستناد إلى مبدأ "الشعب مصدر السلطة"، وأن الحكومة تقوم بممارسة السلطة بهدف تحقيق المصلحة العامة للمواطنين وليس لتحقيق مصالح فئة ما أو حزب معين.
3- تنظيم علاقة مؤسسات الحكم بالجماهير على أساس رابطة المواطنة، أي تمتع كل فئات المجتمع بكل الحقوق والواجبات على قدم المساواة، وتساوي فرص المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية أمام جميع المواطنين دون تمييز على أساس الأصل أو اللغة أو العرق أو الدين أو المذهب أو المكانة الاجتماعية أو الاقتصادية.
ثانيا: مقاصد الانتخابات الديمقراطية
وبعد إرساء تلك المبادئ في الديمقراطيات المعاصرة – في شكل دساتير ديمقراطية - تجرى الانتخابات لتحقيق مقاصد محددة، أي أن الانتخابات هناك انتخابات فعالة، فهي ليست هدفا بحد ذاتها، وإنما هي آلية لتحقيق مقاصد أعلى أو تؤدي وظائف فعلية، هي:
1- تقوم الانتخابات بوظيفة التعبير عن مبدأ "الشعب مصدر السلطات" عن طريق إتاحة الفرصة أمام الناخبين لممارسة أظهر صور المشاركة السياسية وهي الانتخابات العامة.
وهذا يعني أن الحكومة تستند إلى عنصر التفويض الشعبي، فالحكم ليس حقا إلهيا كما في النظم الثيوقراطية، ولا يورث للأبناء كما في النظم الوراثية، كما أنه لا يتم من خلال القهر والغلبة كما في النظم العسكرية والدكتاتورية.
أما الانتخابات التي يجبر فيها الأفراد على التصويت لصالح الحكام نظير عائد مادي حال كولومبيا والنيبال في خمسينيات القرن العشرين، أو مقابل مبلغ نقدي معين أو مجرد الوعد بوظيفة مثل انتخابات 2005 المصرية فإنها لا تعبر عن إرادة الناخبين، وإنما تعكس حقيقة العلاقة بين الحاكم والمحكوم القائمة على التبعية المطلقة المستندة إما إلى خوف المدفوعين إلى المشاركة من تنكيل السلطة وبطشها أو تطلعهم إلى الحصول على مكاسب مادية أو معنوية.
ويرتبط مبدأ "الشعب مصدر السلطات" بحق الشعوب في تقرير مصائرها وتحديد من يحكمها عبر صناديق الانتخاب دون تأثير مباشر أو غير مباشر من الداخل أو الخارج.
ولذا فإن محاولة الولايات المتحدة التحديد المسبق لنتائج صناديق الاقتراع في بعض الدول العربية بحيث تستبعد بعض التيارات، بل ومقاطعتها لحكومة السلطة الفلسطينية التي شكلتها حماس في مارس/ آذار 2006 تتعارض مع مقاصد الانتخابات الديمقراطية.
2- توفر الانتخابات الديمقراطية الطريقة التي يختار من خلالها الحكام، وذلك من خلال انتقال السلطة إلى الفائزين في الانتخابات، فيما يتصل برئاسة السلطة التنفيذية أو أعضاء المجالس التشريعية أو الاثنين معا، وذلك وفقا لقواعد النظامين السياسي والانتخابي.
كما تضمن المجالس التشريعية -التي تأتي بها الانتخابات الديمقراطية- التعددية السياسية من خلال تمثيل جميع التيارات الرئيسية في المجتمع وتمثيل مناسب للنساء والأقليات.
أما انتخابات النظم غير الديمقراطية فغالبا ما تنتج برلمانات يهيمن عليها "أحزاب الحكام" حال انتخابات سنغافورة وكوريا الشمالية ومصر وتونس وسوريا.
3- توفر الانتخابات آلية للتداول على السلطة وتغيير مركز القوة وإمكانية تقلد قوى المعارضة الحكم بدلا من الحكومة القائمة، فالنظام الديمقراطي لا يسمح بتغيير الحكومات بطرق غير الاحتكام إلى أغلبية أصوات الناخبين، كالانتقال العنيف للسلطة بانقلاب عسكري أو ثورة مسلحة، كما لا يمكن إقصاء حكومة جاءت باختيار الناخبين.
أما انتخابات النظم غير الديمقراطية فتتسم بأن نتائجها تكون معروفة مسبقا وليس ثمة إمكانية لتغيير مركز القوة السياسية، وذلك ليس لثبات آراء الناخبين وإدراكهم للبدائل المطروحة، وإنما نتيجةً للآليات التي يطورها الحكام للتأثير على أصوات الناخبين بالترهيب والعنف وشراء الأصوات والتلاعب في النتائج.
4- توفر الانتخابات شرعية شعبية للحكومة المنتخبة حديثا أو تجدد شرعية الحكومة القائمة التي قد تحتاج مع مرور الوقت إلى تجديد شرعيتها وسط ناخبيها.
ولا شك أن حاجة كل نظم الحكم إلى قدر معين من الشرعية هي التي تدفع الحكام غير الديمقراطيين إلى اللجوء لآلية الانتخابات للحصول على ذلك القدر من الشرعية وسط شعوبهم.
5- للانتخابات مقصد هام هو محاسبة الحكام ومساءلتهم وقت الانتخابات إن من خلال تقويم برامج المتنافسين قبل الانتخابات أو عن طريق مكافأة أو معاقبة السياسيين إذا ما أرادوا الترشح للمرة الثانية.
6- تقوم الانتخابات الديمقراطية بدور تعبوي عام من خلال إعداد وتدريب السياسيين والقادة وتأهيلهم للمناصب السياسية، ما يسهم في تجديد حيوية المجتمع ويضمن مشاركة عناصر جديدة في وضع السياسات.
أما الدول التي لا تجرى فيها انتخابات ديمقراطية فهي غير قادرة على تجديد حيوية مجتمعها ولا الدفع بعناصر جديدة إلى مواقع صنع القرارات، ولذا يظل المجتمع لفترات طويلة تحت سيطرة حزب أو جماعة ما أو حتى دكتاتور فرد، وتفقد أجيال بالكامل الفرصة في المشاركة السياسية.
7- تقوم الانتخابات الديمقراطية بدور تثقيفي عام، فهي تشارك -مع وسائل أخرى- في تثقيف المواطنين بالمسائل المتصلة بالعمل العام قبل الانتخابات وأثناءها.
أما في الدول غير الديمقراطية فلا تجرى الانتخابات على أساس الأفكار والبرامج السياسية التي تعالج الشأن العام، وإنما على أساس أداء الخدمات والمصالح الشخصية.
معيار "حرية" الانتخابات
يعنى معيار "الحرية" احترام الحقوق والحريات السياسية الرئيسية كحرية الحركة، وحرية التعبير، وحرية الاجتماع، وحرية المشاركة في التصويت، وغيرها، والواردة في مجموعة من الوثائق والاتفاقات الدولية، وعدد من الوثائق الإقليمية. وهذه الحريات تتفق مع الأمور التي اعتبرها دال شروطاً مسبقة لما أسماه البولارشية. أي أن معيار "حرية" الانتخابات يُشكل، في نفس الوقت، أحد متطلبات الانتخابات الديمقراطية. وفي تصورنا فإنه يمكن أن نضيف إلى تلك الحريات والحقوق بعديْن جديدين: الأول أن تُجرى الانتخابات في ظل حكم القانون، والثاني أن تتسم الانتخابات بالتنافسية.
1. احترام مبدأ حكم القانون: لعل أول وأبرز معايير حرية الانتخابات الديمقراطية في النظم الديمقراطية أن تلك الانتخابات لابد أن تحترم مبدأ حكم القانون"rule of law"، الذي يعني أن ممارسة السلطة بشكل شرعي لا يتم إلا من خلال خضوع القائمين عليها والمحكومين على قدم المساواة إلى قانون مسبق.
2. احترام مبدأ التنافسية: أي وجود تنافس حقيقي بين مرشحين متعددين أو برامج مختلفة. ويتضمن هذا المعيار أمرين رئيسيين، هما: المعيار الكمي الصرف وهو ضرورة ألا تقتصر الانتخابات على مرشح واحد فقط، كما كانت الحال مع النظم الماركسية ذات نظم الحزب الواحد في الإتحاد السوفيتي السابق ودول شرق أوروبا والعديد من دول أفريقيا وآسيا قبل موجات التحول في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.
3. ضمان حريات المعرفة والتعبير والاجتماع والإعلام: تعد حماية حريات الأفراد وحقوقهم الرئيسية، ولاسيما حريات المعرفة والتعبير والاجتماع والإعلام، من معايير حرية الانتخابات الديمقراطية. وتنصرف حرية المعرفة إلى حق الناخبين في معرفة ومناقشة آراء وأفكار وبرامج كل المرشحين في الانتخابات دون قيد أو شرط أو خوف من التعرض للأذى من السلطات. ويتطلب هذا ضمان حق المرشحين للمناصب السياسية في الإعلان عن أفكارهم وبرامجهم والترويج لها بين الناخبين دون قيود أو معوقات، وكذا حق عقد الاجتماعات والمؤتمرات الانتخابية والتجمعات الجماهيرية وذلك دون تمييز أو قيود من قبل السلطة. ويرتبط هذا بحق كل المرشحين في الحصول على فرصاً متساوية في استخدام موارد الدولة ووسائل الإعلام المختلفة لعرض برامجهم وآرائهم بحرية ودون خوف من بطش السلطة التنفيذية. وقد أثارت هذه الحريات الكثير من النقاش حول ضرورة ضمان حد أدنى من هذه الحقوق، ولاسيما حق استخدام وسائل الإعلام وعقد المؤتمرات الانتخابية لكل المرشحين، الأغنياء منهم والفقراء، عن طريق تخصيص الإعتمادات المالية اللازمة لهذا الغرض. إن الانتخابات الديمقراطية في النظم الديمقراطية المعاصرة لا تسمح بالممارسات التي اعتادت عليها شعوب الكثير من دول العالم الثالث مثل منع المعارضين من عقد مؤتمرات انتخابية، أو من الظهور في وسائل الإعلام الرسمية، أو وضع قيود على حرية التعبير والمناقشة، أو التمييز ضد مرشحي المعارضة.
4. حرية تشكيل المنظمات السياسية المستقلة عن السلطة التنفيذية: ويرتبط بعنصر التنافسية ضرورة ضمان حرية تشكيل المنظمات السياسية المستقلة عن سلطة التنفيذ من أحزاب وتكتلات سياسية وغيرها، وكذا ضمان حرية الترشح في الانتخابات. وهذا يعني عدم وجود قيود رسمية "de jure" أو فعلية "de facto" على إنشاء تلك المنظمات والتنافس على المناصب السياسية والمقاعد النيابية.
إنه من غير الممكن إجراء مقارنات بين دول لا تشترك في حد أدنى من السمات العامة المشتركة. إن الاستناد إلى التحليل الشكلي القانوني فقط لا يمكن أن يكشف عن أوجه الاختلاف بين تلك الدول، فالكثير من دول العالم الثالث تتبني – من الناحية الشكلية – دساتير منقولة عن الدول الديمقراطية، لكن دون أن تعمل على تطبيقها في الواقع الفعلي. ولذا، تظل القوة السياسية حكراً على حزب ما أو طبقة معينة أو أسرة مالكة، وتبقى الجماهير بعيدة تماماً عن أن تُقرر مَنْ يحكمها، وتغيب دولة المؤسسات في كافة مجالات الحياة، وتضع السلطة قيوداً قانونية وفعلية أمام جُل حريات الأفراد وحقوقهم. وفي المقابل يُعد التحليل القائم على النظر إلى الممارسات الفعلية للحكومات، وحقيقة العلاقة بين الحكام والجماهير، وكذا البناء الاجتماعي والتجربة التاريخية والعوامل الاقتصادية والثقافية، يُعد مدخلاً ضرورياً لدراسة وتحليل الأوضاع السياسية في تلك البلدان، ولفهم لجوء الكثير من الحكام إلى آلية الانتخابات بغرض تحقيق غايات وأهداف هي أبعد ما تكون عن مقاصد الانتخابات الديمقراطية الحقة.