ماء وملح ... ليست معادلة كيمياوية تصنّف من أسلحة الدمار الشامل المُحرّمة دولياً ، إنماهي أحد أشكال نضال الحركة الأسيرة الرائدة التي استطاعت من خلال الإرادة الصلبة والإنتصار على النفس والجسد أن تقضّ مضاجع المُحتلـّين الغزاة وتفرض عدالة مطالبهم وحقوقهم المحرومين منها التي كفلتها كافة الشرائع والمواثيق والإتفاقيات الدولية ذات الصلة بحقوق الأسرى في زمن الإحتلال ، إنها صرخة الأمعاء الخاوية علا صوتها بوجه السجّان أطلقها الأسرى الإداريون الذين يتم اعتقالهم دون أن توجّه إليهم تهمة أو تبيان الأسباب ، هذا العُرف الكولونيالي العنصري الموروث تعمل حكومة الإحتلال بموجبه كأحد أساليب العقوبات الجماعية الأشـدّ فضاعة وإيلاماً ضد الشعب الفلسطيني ومناضليه إذ يكاد لايخلو بيت إلا وعانى أحد أفراده مرارة الإعتقال الإحترازي قد يمتـّد لسنوات طويلة دفعة واحدة أو على عدة دفعات بأوامر الحاكم العسكري لجيش الإحتلال ، لذلك يتوحـّد الشعب الفلسطيني خلف قضية الأسرى دون أن تتأثر بالتجاذبات السياسية والفصائلية حتى في ظل سنوات الإنقسام الذي أصاب المشروع الوطني بانتكاسةٍ لم يسبق لها مثيل ، وكان الأسرى رغم سياط الجلاد وعتمة الزنازين رواداً للوحدة الوطنية يحملون على كاهلهم عبء الهمّ الوطني في كل أوقات الصعاب وقاموا بصياغة وثيقة الأسرى للوفاق الوطني للخلاص من حالة الإنقسام والتشرذم والإساءة للمشروع الوطني التحرري .
استبشرالمواطن الفلسطيني الخيرعندما استطاعت جهود مختلف الأطراف التوصّل إلى اتفاق الشاطىء الذي يفضي إلى أليات عملية لتنفـيذ مُخرجات إتفاق القاهرة رغم التفاؤل المشوب بالحذر وحالة الترقّـّب لأسباب تتعلق ربما بالسرعة والتسهيلات التي تم بها الإتفاق وكانت عصية على التطبيق طيلة سنوات الحوار الماضية ، ما أثار الريبة في النفوس حول الدوافع ومصداقية نجاحها هذه المرّة ، مع أن الظروف الموضوعية والعوامل الأخرى المحيطة بعملية المصالحة باتت معلومة ولا يختلف عليها اثنان ومع هذا ليس بالأمر المعيب أن تفرض الضرورات الراهنة وقائع المحظورات الماضية أوقات الشدائد شرط تصحيح الأخطاء أو الخطايا ، كما يدرك كل ذي بصيرة صعوبة معالجة أثار الإنقسام بالسرعة التي يتوخاها البعض إن كان هناك نوايا صادقة تريد العبور بها إلى شاطىء الأمان بعيدا عن أجواء التوتير وخلق العراقيل التي من شأنها إعادة الأمور إلى الدرجة الأسوأ مما كانت عليه ، ولكن يبدو أن بعض الأطراف المتضرّرة من استعادة الوحدة قد أطلـّت برأسها مسلـّحة بمعاول الهدم والتشكيك منذ اللحظة الأولى وأرادت حكومة إدارة أزمات على مقاسها لا حول لها ولا قوة حتى قبل استلام مهامها ومراكز عملها لها وظيفة تمويل الإنقسام من خلال إغراقها بأثقال الحصار والمشاكل المتراكمة وتبقي كل شيءٍ على حاله بالتوازي مع حكومة ظل لها مالها وليس عليها سلطان .
لعل مايثير السخط والإستغراب أن يتم المتاجرة بقضية الأسرى الذين يخوضون ملحمة الصمود والتحدي في وجه إجراءات الإحتلال التعسفية ، وزجّهم في أتون الصراعات الداخلية من أجل تنفيذ أجندات فصائلية وإعلاء المصالح الضيقة مايؤدي إلى استفزاز المشاعر وإشاعة مناخ الإحباط ، في الوقت الذي يحتاج به الأسرى إلى توحيد وتظافر كل الجهود تحت راية فلسطين التي يجب أن يستظلّ بها مختلف مكونات المجتمع الفلسطيني للإرتقاء بمستوى الفعاليات وتوحيد الجهود الوطنية ومايقدمونه الأسرى والمعتقلين من تضحيات جسام في سبيل حرية شعبهم أولا ً وتحقيق مطالبهم العادلة ثانياً ، صورة كفاحية ينبغي تقديمها للعالم الصامت الذي لايحرك ساكناً أمام جرائم الإحتلال بما فيه تشريع قوانين عنصرية يندى لها جبين الإنسانية كإطعام الأسرى المضربين عن الطعام بالقوة الإجبارية وهم مقيدي الأيدي والأرجل بالأسرّة داخل المستشفيات ما يزيد من معاناتهم وتفاقم أوضاعهم الصحية الخطيرة ، وأيضاً سنّ قانون يمنع العفو والإفراج عن المعتقلين في ظروف تبادلية أو إنسانية ، إنها جرائم قتل متعمّد على المجتمع الدولي إدانتها وملاحقة مرتكبيها وتقديمهم إلى محاكم جرائم الحرب الدولية .
في حين أظهرالعالم مرة أخرى ازدواجية الكيل بمكيالين عند اختفاء ثلاث مستوطنين في مناطق يسيطر عليها جيش الإحتلال بالكامل من الناحية الأمنية والإدارية معلناً استعداده الكامل للمساهمة في اقتفاء أثارهم داعياً لإطلاق سراحهم فوراً ، بينما هناك أكثر من ثمانين أسيرا ً بينهم من دخل غرف العناية المكثـّفة قد يلاقون حتفهم في أي لحظة لاذنب لهم سوى الإحتجاج على ظروف اعتقالهم لم يلتفت إليهم المجتمع الدولي ومؤسساته المختلفة ، وكعادتها وجدت حكومة التطرف ظالـّتها وإطلاق الأحكام المسبقة للهروب من مسؤولياتها أزاء مستوطنيها الذين يستعمرون الأراضي الفلسطينية وإلقاء فشلها الذريع باتجاه تحميل السلطة الفلسطينية المسؤولية عن تبعات أمنها ولم تنسى بالطبع التذكير بأن استعادة وحدة الشعب الفلسطيني وتشكيل حكومة الكفاءات المستقلة هو تحالف مع "الإرهاب" اعطى هذه النتائج متجاهلا أن أقطاب حكومته الإئتلافية يمثلون غلاة التطرف والإرهاب ، مايؤكد نواياها المبيّته بارتكاب عدوان مرتقب أعدّ له مسبقاً على الشعب الفلسطيني لخلط الأوراق السياسية بعد أن أخفق بإقناع العالم مقاطعة حكومة الوفاق الوطني ، وحرف الأنظارعن قضية الأسرى الإداريين المضربين عن الطعام والمهددّين بالموت في كل لحظة منذ الرابع والعشرين من شهر نيسان الفائت .
إن ردّات الفعل الإسرائيلية غير المسبوقة على استعادة الشعب لوحدته الوطنية وتصاعد وتائر عدوانه الجنوني من اعقالات ومداهمات وفرض الإغلاق والحصار وقتل الأطفال بدم بارد أمام معتقل عوفر المحاذي لمدينة رام الله ومخيم الجلزون أثناء التصدي لإقتحام المخيم تؤكد المرة تلو الأخرى أهمية هذه الخطوة الإستراتيجية التي أربكت حساباته ومخططاته المبنية على إدامة الإنقسام وتكريس الفصل السياسي والجغرافي بين أبناء الشعب الواحد وبالتالي فإن من لايدرك هذه الحقيقة بعد أو يتجاهلها عن عمد لإبقاء حالة الإنقسام الدخيلة على مسار الحركة الوطنية الفلسطينية لعلـّه يقدّم خدمة مجانية لهذه المخططات من حيث يدري أو لا يدري ، لذلك لابد من التمسك بنهج الوحدة مهما كانت الصعاب وتجميع كافة عوامل القوة للوقوف مع قضية الأسرى العادلة وتفويت الفرصة على مخططات الإحتلال الساعية للإستفراد بالشعب الفلسطيني وتفكيك مكوناته والتحرك العاجل لدى الجامعة العربية ووضعها أمام مسؤولياتها تجاه إنقاذ حياتهم فضلاً عن دعوة مجلس الأمن الدولي لوقف عدوان الإحتلال ومليشيا مستوطنيه المتدحرج قبل فوات الأوان ، رسالة الإحتلال واضحة وضوح الشمس فهل نستطيع الرد عليها بأحسن منها ؟.......