المخطط المرسوم لفلسطين والمنطقة

بقلم: عباس الجمعة

على وقع امتداد ألسنة نيران الإرهاب تتسع رقعة الفوضى في المنطقة، تماما كما خططت لها أميركا واسرائيل، وأرادها منظرو سياستها الإرهابية، فالجميع لهم مصلحة مشتركة في تفتيت دول المنطقة، وإطفاء جذوة المقاومة لدى شعوبها الحية، ومن هنا تبدو حكومة الاحتلال الصهيوني أكبر المستفيدين مما يجري، فهي عازمه على بث الفوضى في أوساط الشعب الفلسطيني ليتحقق له الهدف وهو تصفية القضية الفلسطينية من خلال شق المجتمع الفلسطيني، وإعادة نكأ جروح الانقسام وإعادة الفلسطينيين إلى المربع الأول ليتسنى له مواصلة التهام ما بدأه من مشروع احتلالي استيطاني يأتي على كامل الأرض الفلسطينية، مستغلًّا في ذلك حالة الفوضى والإرهاب المستشرية في ربوع دول المنطقة ، لتعلن عن مسرحية حادثة قتل ثلاثة من قطعان المستوطنين، فبعد أن استثمر اختفاءهم في الممارسات الإرهابية والعقاب الجماعي ضد الشعب الفلسطيني، والإصرار على محاولة إفشال اتفاق المصالحة، أي تغيير قواعد اللعبة، فواضح أن حكومة الاحتلال ادركت انها لم تحصدا سوى الفشل من توظيف اختفاء المستوطنين وهم أحياء، وبالتالي يحاولون التوظيف وهم أموات في محاولة لتأليب الراي العام الدولي ، حيث تتولى الأبواق الإعلامية والدبلوماسية والسياسية الإسرائيلية تضخيم الأمور وصولا إلى الأهداف المرسومة، واعلان الحرب على الشعب الفلسطيني واجهاض المصالحة الفلسطينيه.
هذا الكلام يجب على الجميع ادراكه ، فهذا الكيان ، كيان غاصب يمارس العنصرية ضد أصحاب الأرض الأصليين ،"كيان أبارتهايد" ولم يثبت يوماً نقيض هذا التوصيف، وما تشهده الأرض الفلسطينية المحتلة، في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وكل شبر فيها لم يكن مرعباً وفظيعاً فقط في الدرجة العليا التي وصل إليها الإجرام، لكن الأفظع من الفظاعة هو أن التجربة على الدم الفلسطيني تمر وسط صمت عربي يماثل صمت القبور وتعمي دولي أبعد من مماثلته في وقت وصلت الجلبة أعلى مداها, عربية وغربية, إزاء الأحداث التي تتعرض لها سوريا وهو إرهاب موصوف وموثق ، ولعل الأشد إيلاما من هذا أو ذاك في عدوان الكيان الصهيوني على الفلسطينيين هو أن هذا الغياب الدولي- العربي لم يخترقه سوى حضور عربي ملتبس تحول إلى مجرد وسيط بين المعتدي والضحية.
وفي ظل هذه الظروف التي تعيشها المنطقة فقد تراجعت القضية الفلسطينية إلى مستويات دنيا في سلم الأولويات والاهتمامات على المستوى الأممي والدولي على الرغم من ارتفاع منسوب الإرهاب الصهيوني وما يمارسه الاحتلال في فلسطين المحتلة من قتل وتخريب واستيطان وتهويد وتشريد، وبات المتابع قادراعلى المقارنة والاستدلال, ليس على ازدواجية المواقف الدولية فقط, بل على كونها رهينة ولا تزال في يد القوى المتنفذة في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة أيضاً، كأن أمراً لافتاً لو أن المرء قد شهد بعض مقاربة في تكرار الفصول المتعاقبة من الحماسة الدولية والعربية لما يجري في سوريا من عدوان كوني مماثل ، بينما العرب يطالبون مجلس الأمن باصدار قرارات تسلخ الجسم العربي بأكمله ونفسه ، بدلا من الوقوف امام ما يجري في فلسطين المحتلة من اجل اتخاذ مواقف حاسمة من خلال الضغط والإدانة لجرائم الكيان, إن عز وقفها، فلو أنفقت بعض دول العربان من الحماسة القليل القليل مما أنفقته على سلخ جلدها من أجل رفع القهر والموت والتجويع والحصار عن شعب فلسطين ومن أجل توفير الحد الأدنى من حقوقه الوطنية، لكان في الأمر كلمة سواء، لو تحركت دول النفط فقط ودفعت ما دفعته للعدوان على سوريا وليبيا وما تدفعه لداعش في العراق وصرفته لوقف العدوان عن الشعب الفلسطيني لعزلت الكيان منذ زمن بعيد، ومارست ضده حقها المشروع في الدفاع عن النفس على الأقل، لكنها تلهت بأكل لحمها ولعق دمها, وتراجعت وتنازلت وحرقت الكثير من الأوراق, وساعدها نظام عالمي أعور يرعى إرهاب الكيان الصهيوني ويحميه ويمده بما يمتلكه من ترسانات أسلحة الموت والدمار والعدوان، ولا يميز بين الضحية والجلاد ويتناسى أن إسرائيل دولة احتلال وأن كل مشاكل الشعب الفلسطيني ونكباته هي المسبب لها.
ان ما نرى مخاطره اليوم اصبح واضحا حيث يسعى اصحاب المشروع الصهيوني الامريكي الى تصوير ايران على انها العدو المركزي للعرب والمسلمين وليست اسرائيل،في إطار حرف الصراع عن أساسه من صراع عربي- صهيوني الى صراع عربي- فارسي،وليس مطلوب تجند العرب وقياداتهم المتهالكة وتحديداً من ما يسمى بمعسكر الإعتدال،بل المطلوب نقل الفتنة شعبياً،فتنه مذهبية سنيه- شيعيه ـ ومسيحية ،بحيث تشارك فيها المؤسسات والمراجع الدينية والقوى الشعبية،ورأينا كيف أصبح التحريض المذهبي في اعلى درجاته حيث يتم توظيف كل هذا الحقد والتحريض المذهبي والطائفي فيما يسمى ب"الثورات العربية" بحيث لم تشهد منطقتا العربية مثل هذا التحريض والفتن المذهبية والطائفية لعقود خلت،وانتشرت الجماعات الإرهابية والتكفيرية والقتلة انتشار النار في الهشيم موظفة الدين لخدمة جرائمها وإرهابها ووجود حاضنات ترعاها وتمولها وتدافع عن جرائمها،ولذلك أصبحت تمارس عمليات قتل الناس بطرق وحشية وبهمجية في ليبيا والعراق وسوريا ومصر ولبنان دون أي وازع ديني او اخلاقي ، وتهجر الناس من ديارها كما يحصل الان في الموصل ، بينما يتناغم اصحاب من يسمون انفسهم بانهم قاتلوا الاحتلال الامريكي للعراق بان ما يحصل في العراق ثورة شعبية فحولوا انفسهم من القومية الى الداعشية .
فالكيان الصهيوني، وبفضل مقاومة الشعوب العربية، ومنها بشكل خاص الشعب اللبناني والشعب الفلسطيني، أصبح بحاجة لحماية، وفقد دوره كرأس حربة لحماية المشروع الاستعماري ، ومن جهة أخرى أصبحت الأنظمة الرسمية بمعظمها عبئا على هذا المشروع، ومن جهة ثالثة تمت اكتشافات جديدة لمصادر الثروة العربية ولم يعد النفط والغاز حكرا على الخليج، فالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين وصولا إلى السودان مراكز أساسية كامنة لهذه الثروة.
في هذا الإطار، تأتي تطورات العراق، فأميركا وبدعم من السعودية وأغنياء الخليج، أوجدوا "داعش"، حيث لمعو ا دورها في سوريا على مدى ثلاثة سنوات ، واليوم في العراق، بعد ان استفادوا في ذلك من حكم عراقي، اتو فيه من اجل تنفيذ مآربهم ، حيث فاقم الفساد واضاع الوحدة الوطنية وجعل العراق فريسة التحاصص الخارجي الأميركي الاستعماري - السعودي .
وها هو اليوم يحقق رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني حلم والده والكرد، باتت دولة كردستان العراق جاهزة للاستقلال الكامل، حين تستقل، ستكون اسرائيل أول المعترفين بها، وتتزامن مع همروجة "داعش" في الموصل حجبت الأنظار عن ضم كركوك الغنية بالنفط الى اقليم كردستان. دفن العرب رؤوسهم في الرمال، هذا دأبهم في كل مرة ينسلخ جزء من أوطانهم عن الجزء الآخر. مثال جنوب السودان خير شاهد، وقريباً جنوب اليمن، وبينهما الصومال وجزيرة مايوت في جزر القمر.
بارزاني المولود في مهاباد الايرانية مناضل كبير في عيون شعبه، لم ير والده الملا مصطفى حتى بلغ 12 عاماً، حمل السلاح وهو في ربيعه الـ 16، ثائر مؤمن بحق قوميته. قائد كاريزمي بامتياز. فقد ثلاثة من اخوته وقسماً كبيراً من عائلته، وتعرّض للاغتيال مراراً في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، لم يفقد يوماً الحلم بدولة مستقلة تجاور عراقاً ديمقراطياً، تحققت الدولة واستشهدت الديمقراطية.
وبارزاني السياسي، حليف قوي لأميركا وأجهزتها، هو اليوم اصبح علنا ايضاً حليف موثوق بالنسبة لاسرائيل، الكتب والدراسات حول هذا الموضوع اكثر من ان تحصى، اضافة الى تصريحات ومواقف قادة حزبه اليوم بعد حديث رئيس حكومة الكيان الصهيوني نتنياهو بترحيبهم بالموقف الاسرائيلي ، فهم منذ زمن يسعون بعد منحهم حكم ذاتي الى اقامة دولة للاكراد، وانهم كانوا مستعدين للتحالف مع اي طرف لتحقيق هذا الحلم، واذا كانت الدراسات والكتب تؤكد ارتباط الملا مصطفى بارزاني باسرائيل منذ بداية ثورته، الا ان قادة الكرد لم يقطعوا العلاقة مع ايران ولا سوريا. دمشق، بالمناسبة، كانت دائماً اقرب الى الرئيس جلال طالباني وحزبه من مسعود بارزاني لقلقهما من العلاقات السرية مع اسرائيل، لا شيء بعد اليوم سيمنع كرد سوريا من التفكير بالاستقلال.
وامام ما يجري هل بدأت تتعير خارطة المنطقة باتجاه العمل على رسم سايكس بيكو جديد يبدأ بتقسيم العراق ، ولكن السؤال هل تريد الادارة الامريكية افراغ المسيحية من الشرق الاوسط لتحوله الى امارات متطرفة ، تتصارع فيما بينها، ، لكن عفريت الارهاب خرج عن قدرة سيده على التحكم به من خلال العمل على فصل شمال العراق واهتزاز وسطه وغربه حتى لا يعود كما كان سابقا.
نعم، المهمة الرئيسية اليوم أمام العراقيين هي منع تقسيم العراق وبالتالي التصدي للإرهاب والتخلف المتمثل في "داعش"، هذا التصدي لا يكون بـ"دواعش" أخرى، بل بقيام جبهة وطنية عراقية، تتصدى وترفض المكونات "الداعشية" وتضع برنامجا ديموقراطيا، أساسه احترام التنوع العراقي في ظل وحدة العراق، وفي ظل حكم مدني ديموقراطي، يعيد للعراق سيادته ودوره في العالم العربي.
ان ما تتعرض له القضية الفلسطينية يتطلب كلمة سواء في وجه طغيان امريكي صهيوني يجتاح فلسطين, أما اليوم فهناك سباق على الطغيان, مترافق مع سباق عربي لإنهاء هذه القضية ، فهذا يعني فعلاً أن المخاطر الاستراتيجية أصبحت تحيط بأساسيات قضية فلسطين وتهدد هذه الأساسيات بالانهيار والاندثار.
ولهذا نرى ان تصريحات بعض قادة حركة حماس تعيدنا الى مشهد شبيه في ظل ظروف أكثر مأساوية فلأن أطراف المكونات الداخلية لمعادلة الانقسام لم تأخذ العبرة بما فيه الكفاية من التجربة السابقة حيث انصبت على كيفية تمرير مصالحة شكلية وتنقذ كل طرف من مأزقه السياسي ،دون تفكير بمراجعة إستراتيجية عند كل طرف تؤسِس لإستراتيجية وطنية جديدة ، فقد تم الاقتصار على بند تشكيل الحكومة فقط ،وبقيت قضايا المقاومة وسلاحها والقوة التنفيذية لحماس والاعتراف بالاتفاقات الموقعة وتفعيل منظمة التحرير الخ دون حل .
صحيح بأن سوريا أصبحت تفرض معادلات كبيرة في المنطقة،تطال اكثر من ساحة ،وفتحت انتصارات سوريا نافذة على إنتصارات كبرى لاحقاً،ولكن الحلف المعادي ما زال رغم كل خسارته يحاول ان يثبت قوته ووجوده، فتارة يضرب في العراق وأخرى في لبنان،ولكن لم يعد قادراً ان يفرض شروطه، فمشروع المقاومة حتما سينتصر .
ختاما : لا بد من القول أن لا خيار أمام الفلسطينيين إلا المصالحة الوطنية و تفعيل كل بنود اتفاق المصالحة ضرورة وطنية، من خلال مواصلة الحوار الجدي والفاعل، والذي يوصل الى نتيجة، يحمي مصالح الشعب الفلسطيني، ويحمي القضية الفلسطينية من الاندثار، ورسم استراتيجية وطنية موحدة تعيد الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني ، الذي يضمن ويكفل حقوق الشعب الفلسطيني ، والتمسك بخيار المقاومة بكافة اشكالها بمواجهة الاخطار والتحديات ومواجهة الهجمة العدوانية الصهيونيه لفرض الحل الاسرائيلي الذي هدفه نسف حقوق الشعب الفلسطيني في اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين الى ديارهم وبالتالي تصفية القضية الفلسطينية.
كاتب سياسي