ليس للكتابة عن الأسرى طقوسية محددة .. فهم نبض مستمر من المعاناة والوجع الذي لا ينتهي .. لذا فالكتابة عن هموم ومطالب أسرانا ترتبط دوما بالأحداث العامة وأخبارهم الخاصة .. وربما حين نكتب نحن خارج القضبان نتقمص جروحهم وصعوبة حياتهم ودوامة أفكارهم ونكتب بحروفنا .. لكن الحكاية مختلفة حين يكون الجدول اليومي هناك داخل المعتقلات في قبضة القيد وقسوة القضبان .. في شهر رمضان المبارك تصعد مشاعرهم لمستويات الشوق الجارف الكبير إلى الأب والأم والأخ والأخت والزوج والزوجة والأولاد والجيران والوطن وطقوس ومظاهر رمضان .. لكنهم هناك يتقمصون حياتنا الطبيعية نحن .. نحن أبناء الشعب الفلسطيني نعاني الاعتقال وقد لا يخلو بيت من وجود معتقل أو كان معتقلا .. فجميع البيوت تشعر بالأسير وغربته في زنازين الظلم الاحتلالي .. إنها مشاعر صادقة تطلع من عمق تجربة ذاتية ودرجات عالية من الغوص في التفاصيل .. هناك مشاهد غير قابلة للتصديق .. ومشاهد غير قابلة للصمت .. ومشاهد تبكي وتبكينا .. ومشاهد خارج مدى سيطرتنا النفسية .. نتمنى وجودهم بجانبنا .. يتمنون حريتهم ليبقوا بجانبنا .. جميعهم شاركونا حلو المناسبات ومرَّها من أعياد وجنازات وأفراح وسعادة وأحاديث وضحكات ودموع وأفكار وفعل فلسطيني بكل معنى الكلمة عنوانه هوية وطن محتل ينشد الحرية ويوظف كل الوسائل المتاحة ليدق جدار الخزان .. بين الكتابة لهم وانتظار عودتهم محررين وجع عميق يسكن الدموع والصدور .. أظن أننا لا نفكر مرتين حين نسكن الشارع تضامنا معهم لنعلي صوتهم أمام العالم .. كما القدس .. كما القصيدة .. كما الزيتون .. كما هواء البحر .. كما الرحيل .. كما الخبز .. الأخبار التي تنقلنا يوميا إلى مرضهم وحرمانهم وصبرهم وقسوة السجان عليهم .. ويتربص بنا خوفنا المتعمق في أعماق أرواحنا ليمتزج بدعائنا ألا يصيبهم مكروه أو أن نفجع بأحد منهم .. فكيف مشاعر ذويهم .. إنها أسطورة منقوشة بالمرارة وكثير من الصبر والصمود والدعاء الذي لا يتوقف .. كما هي أسطورة ملامح وطن " فلسطين " يشق الطريق إلى حريته بين ضباب الذاكرة وغبار الحاضر وترهل المواقف وإمعان المحتل في عنجهيته .. زيتون أخضر بملامح معتقل حبيب غائب .. في شهر الصيام .. الآهات تزيد الغربة غربة .. الصخر ينطق اشتياقا .. عبق الأهل يقترب .. عبق الأسير لا يفارق الأماكن كل الأماكن .. الوطن كل الوطن .. اليوم في صلاتنا وقبل أن نتناول تمرنا وماءنا وفاكهتنا يجب أن ندعو لهم .. ندعو للعجائز الذين شابت خلف المعتقلات وينتظرون عناق أبنائهم قبل أن يسافرون في سفينة الأجل دون عناق .. حيث تغيب الشمس ويعلن النهار سفره إلى الليل علينا أن نسافر إلى معتقلينا بكل جوارحنا وأفكارنا وصور التضامن معهم ومع ذويهم .. لنحتضن الحاضر والغائب في آن واحد ... جسد الاعتقال ينهش قلب معتقلينا .. تشتهي القضبان أن تأكل لحمهم كما الاحتلال .. نذهب إلى طقوسنا .. هناك يذهبون أو يتلقون ضربات المحتل الغاصب وأيديهم مقيدة بالأسلاك والقيود البلاستيكية المؤلمة جدا معصوبو الأعين ينزفون دماءً ووجعاً .. يوم معتقل يزج في زنزانة انفرادية ويترك لساعات وأيام وشهور وسنين .. وقائع مشاهد تصل إلى الشهادة والموت .. تنكيل وإرهاب احتلال لا يرحم .. جسد ينهال عليه ضربا كي تنهار نفسيته وتتلاشى شخصيته ويصبح من الماضي السحيق بلا هوية أو عنوان أو هدف .. جسد معتقل .. جسد أنين محاط بجدران صماء .. الانتصار لقضية الأسرى و الاعتقال تتسع لمحيط جغرافيا الوطن .. قضية تحمل اتجاهات متباعدة ومتقاطعة .. اختبار عسير للأسير ولذويه .. تحدي لكل ذلك بالعزم والإرادة والصبر والقوة .. تحدي لواقع مرفوض .. واقع التنكيل والظلم والإذلال والقهر والإحباط والمصير المجهول وأحكام تفوق الخيال .. شمس الحرية آتية لا محال .. وكأني أسمع صوت الأنين الخارج من خلف الزنازين ينشد الحرية في حروف شاعرنا الفلسطيني الراحل محمود درويش : " أُريدُ من الأَرض أَكثَرَ مِنْ هذه الأَرضِ : رائحة الهالِ والقَشِّ .. بين أَبي والحصان .. في يدي غيمةٌ جَرَحْتني ، ولكنني لا أُريدُ من الشمس أَكثَرَ من حَبَّة البرتقال وأَكثرَ منْ ذَهَبٍ سال من كلمات الأذانْ " .
د.مازن صافي / كاتب من غزة