بدأت الاتهامات والمناكفات الإسرائيلية-الإسرائيلية بسرعة، وقبل أن تضع الحرب أوزارها، ففي مجلس الوزراء الأمني هناك صراعات بين كل من "نتنياهو" و "ليبرمان"، هذه الصراعات على حساب الدماء الغزية، وهناك قطيعة كاملة بين "نتنياهو" و"ليبرمان"، فهذه الحرب-كما أشرنا إليها في مقال سابق-تندرج في الصراع على الحكم، تمهيداً لانتخابات الكنيست القادمة، فهناك من يتهمون "نتنياهو" بالتردد في اتخاذ القرارات، وأن لا هدف واضحاً لهذه الحرب، ويرد عليهم "نتنياهو" بأنه لا يمانع في انتقاده وسماع وجهات النظر الأخرى، شرط أن يتم طرحها داخل مجلس الوزراء وليس للدس والتشهير، وبعد أن كان هدف الحرب المعلن -كما جاء على لسان "نتنياهو"- تهدئة مقابل تهدئة، تم الاشتراط بالقضاء على المقاومة، ونزع صواريخهم وأسلحتهم، ثم تدمير بنية المقاومة، والقضاء على حركة حماس، انتقل "نتنياهو" إلى هدف آخر، ألا وهو تدمير الأنفاق التي أصبحت تحتل الصدارة، والتي توصل القطاع ببيوت المستوطنات المجاورة، فإذا استمرت الحرب، أو توقفت فإن تدمير الأنفاق سيتواصل، ويرد عليه خصومه بأن قضية الأنفاق تحتاج إلى لجنة قضائية للتحقيق حولها، لأن وجودها يشكل فشلاً استخبارياً، فإذا كنتم على علم بها قبل اندلاع الحرب فلماذا غضضتم النظر عنها، وإذا لم يكن لديكم معلومات حولها، فالمصيبة أكبر-حسب خصومه- ويبدو أن هذا العدوان في نظر سياسيين إسرائيليين لا هدف واضحاً له، وأن الإنجاز الوحيد منها، قتل وإصابة أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، والتسبب بأكبر قدر من الأضرار والدماء للفلسطينيين، وربما يحضّر "نتنياهو" الرأي العام الإسرائيلي لنجاحه وبطولته في تدمير الأنفاق، التي تشكل خطراً إستراتيجياً على إسرائيل، ليكون من أهم إنجازاته في هذه الحرب، مما يدل على انخفاض سقف هذا العدوان.
لو افترضنا وشُكلت لجنة دولية محايدة، لمعرفة الجهة التي تخل بالتهدئة فإن إسرائيل تخشى إقامة مثل هذه اللجنة، إذ أنها هي التي تخترق اتفاقات التهدئة على الدوام، أما الذين يدفعون باتجاه إعادة احتلال القطاع، فانه سيغرق إسرائيل بالوحل الغزاوي، والزيادة في توريط "نتنياهو" ووزير حربه "يعالون"، وستغرق إسرائيل ثلاث سنوات في وحل غزة للقضاء على المنظمات الفلسطينية- وبنيتها حسب تقديرات إسرائيلية- سيسبب لها مثل هذا الاحتلال خسائر فادحة في صفوف جنودها، وبالتأكيد المدنيين الفلسطينيين، ويبقى السؤال المهيمن على السياسيين الإسرائيليين: ماذا ستفعل بالقطاع بعد احتلاله، هل ستعود إسرائيل لتحمل مسؤوليته الاقتصادية والسياسية والأمنية؟ وما سيخلق مثل هذا الاحتلال من مشاكل لها، من جهة أخ0رى فإنه في مثل أحوال الحرب والدمار الذي أصاب مواطني القطاع، فلا مبرر في عدم الانسجام في مواقف الفصائل الفلسطينية، ربما أن التدخلات العربية وغير العربية شكلت عدم الانسجام الذي يضعف الموقف الفلسطيني، فإذا كان تشكيل الوفد الفلسطيني لمحادثات القاهرة أخذ كل هذا الوقت، فكيف سيكون حال التفاوض مع الإسرائيليين، إذا ما اضطررنا إليه، وأما الأصوات الإسرائيلية التي لا تريد فهم لب الصراع، تعتقد أن حل مشكلة قطاع غزة بتسليمه لرئيس السلطة الفلسطينية "أبو مازن" فإنهم يتجاهلون أن لا نهاية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، إلا بحل جذري للقضية، تبدأ بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وبإقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وأي حلول دون ذلك تبقى ناقصة ومؤقتة لا تدوم طويلاً، بانتظار الانفجار القادم.
حكومة إسرائيل التي قامت بحملة شعواء، ضد المصالحة الفلسطينية-الفلسطينية، وتشكيل حكومة متفق عليها، نادمة اليوم على التورط في عدوانها على غزة، والنقاش الدائر في إسرائيل يعترف بهذا الخطأ، أما الخطأ الأكبر في النقاش في الحلبة السياسية الإسرائيلية، بأن حكومة "نتنياهو" لم تتقدم بحلول سياسية ولم تقدم شيئاً لـ "أبو مازن"، حتى أن الرئيس الفلسطيني أصبح مطلباً إسرائيلياً ليخرج إسرائيل من مأزقها، مع أن العقلية الحكومية الإسرائيلية ما زالت متحجرة، ليس في ذهنها وتصوراتها، ودبلوماسيتها، أي تفكير في حل جذري للقضية الفلسطينية، كما أن الولايات المتحدة، ورئيسها، ووزير خارجيتها، لم يسلما من الهجوم الإسرائيلي عليهما وعلى إدارتهما، لمجرد تعارض رأيهما مع الموقف الإسرائيلي، فإسرائيل تريد موافقتهما على كل مواقفها، رغم ان "القبة الحديدية" لاعتراض الصواريخ أقيمت بخبرات وموازنات أميركية، وقد أخطأت الإدارة الأميركية بفتح مستودعاتها العسكرية والتسليحية الموجودة في إسرائيل أمام الجيش الإسرائيلي، لأخذ ما يحتاجه من ذخيرة، فإسرائيل تتمسك بأيديولوجيتها المتطرفة، ولا تحسب أي حساب للدعم الأميركي المالي والسياسي والاقتصادي والعسكري، فإذا استمرت هذه السياسة الأميركية الداعمة لإسرائيل دون شروط، فإن الصراع لن يتوقف، فاحتياج إسرائيل لهذه الذخائر، واستدعائها لـ (16) ألف جندي إضافي من قوات الاحتياط، ليصل عدد المستدعيين من قوات الاحتياط لـ(86) ألفاً، عدا السلاح الجوي والبحري والقوات الخاصة، كل هذا يدل على عمق المأزق الإسرائيلي في قطاع غزة.
إسرائيل التي تعتبر أن حربها على غزة فُرضت عليها، وبأنها حرب اللاخيار كل هذا كلام فارغ، ولتضليل الرأي العام الإسرائيلي، فقد أوقفت مفاوضاتها مع الفلسطينيين، ولم تلتزم باتفاق الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى، وادعاؤها بأن احتلالها لقطاع غزة انتهى منذ عام 2005 هو ادعاء كاذب، إذ أن القطاع بقي محاصراً، ومواطنوه سجناء، وتكذب بأن جيشها يعمل كل شيء لمنع قتل المدنيين، فأحياء سويت بالأرض، ورحل سكانها إلى المجهول، وقتلت وجرحت الآلاف، 80% منهم من المدنيين النساء والأطفال وكبار السن، حتى أنها اعتبرت خطة "كيري" لوقف النار جائزة للإرهاب، وإسرائيل تقف أمام خيارين، ما بين الاستمرار بعدوانها، وبين الانسحاب من جانب واحد، حتى أن جريدة "هآرتس 26-7-2014"، نقلت عن لسان الجنود قوة كثافة النيران التي تواجههم، والخوف الدائم الذي يرافقهم، ورغم الدمار والقتل الذي سببته آلة الدمار الإسرائيلية، يعترفون بأن النيران التي تواجههم تبقي المقاومة الفلسطينية قادرة على إطلاق النيران والصواريخ، وأكثر ما يخشونه الوقوع في الأسر.
لقد أدخل "نتنياهو" وحكومته شعبهم بورطة نحو المجهول، وكلما وسع حربه في عمق القطاع، ستصبح الورطة أكبر، ففي استطلاع للرأي العام الإسرائيلي، أيد 85% من المستطلعين القيام باجتياح القطاع للقضاء على المقاومة الفلسطينية، وإذا كان هذا الاستطلاع صحيحاً، سببه التطرف الذي غذت به الحكومة الإسرائيلية شعبها، فإذا كان الإسرائيليون يريدون العيش على السيف إلى الأبد فهنيئاً لهم، لكن الأمن والاستقرار لن يتحقق إلا بالسلام، وقبل انتهاء الحرب، فإن المستوطنين -وخاصة القاطنين في جنوب البلاد، الذين تعرضوا للأضرار- بدأوا بمطالبة الحكومة بتعويضهم ويتجادلون عن قيمة هذه التعويضات، وذكرت جريدتا "معاريف ويديعوت 27-7-2014"، أن "نتنياهو" ووزير حربيته "يعالون" يبحثان عن مخرج لوقف العدوان، فقد أخذوا يخشون الرأي العام الإسرائيلي حول فشل هذا العدوان في تحقيق أهدافه المعلنة، وحسب الصحيفتين فهما يتخوفان بأن يظهر "ليبرمان" المنتصر لأنه اعتبر أن صورة الدمار والقتل في القطاع أمراً جيداً.
لقد تعرض قطاع غزة لثلاث حروب، مما يؤشر إلى أن وقف إطلاق النار والتهدئة لا يشكلان الحل، لكن موضوع الحل الجذري والشامل ليس في ذهن "نتنياهو" وحكومته، وليس في ذهن معظم الإسرائيليين، فقد نجحت المقاومة بالتحدي ولا تبدي المقاومة أية علامات انكسار، بينما يدعي "نتنياهو" أنه انتصر في هذه الحرب، لكن توقعاتنا أنه بعد التوصل إلى نهاية هذه الحرب، وتنكشف الحقائق وتشكل لجان التحقيق، فإن مصير "نتنياهو" ووزير حربه، سيكون نفس مصير "مناحم بيغن" ووزير حربه "أرئيل شارون" في العدوان على لبنان عام 1982، ومصير رئيس الوزراء "أيهود اولمرت" ووزير حربه "عمير بيرتس"، ورئيس أركان جيشه دان حلوتس في العدوان على لبنان عام 2006، الذين عزلوا جميعاً من مناصبهم، فهل سيتعلم ويستفيد ورثتهم في الحكم من أسلافهم؟ .... برأينا لا.