مرّة أخرى أثبت الشعب الفلسطيني قدرة عالية على إستعادة زمام المبادرة وصناعة البطولة بكل أشكالها، كما أثبت إستعداداً عالياً للتضحية والمواجهة والصمود في وجه أعتى آلة بطش عسكرية في الشرق الأوسط، ليعيد الإعتبار للقضية الوطنية وينفض ركام مرحلة أريد له فيها أن يستسلم لشروط الإحتلال من بوابة المفاوضات والضغوط المالية.
الحالة الكفاحية التي أبدعتها جماهير الشعب الفلسطيني في كل مكان بإختلاف أشكالها حملت رسالة مهمة للعالم مفادها رفض التعايش مع الإحتلال والإستيطان وواقع الحصار والجرائم الإسرائيلية المتكررة في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن محاولات تذويب القضية الفلسطينية عبر فرض واقع اليأس والإحباط فشلت كما فشلت في محطات سابقة حتى في ظل وجود بعض القيادات الفلسطينية التي تماهت مع الواقع تحت شعار الواقعية.
قبل الحرب المسعورة على قطاع غزة ونتيجة فشل عملية التسوية السياسية كنّا جميعاً نتوقع إندلاع إنتفاضة شعبية لتوافر أسبابها السياسية، بعد أن وصلت ممارسات الإحتلال إلى مستوى لا يمكن لأيً فلسطيني القبول به، وإندلعت شرارة إنتفاضة شعبية واسعة في القدس وسائر مناطق الضفة الغربية رداً على جريمة إغتيال الفتى محمد أبو خضير، ورداً على عمليات نهب الأرض وتقطيع أوصال الضفة الغربية وتحويلها إلى معازل تفصل بينها مئات الحواجز العسكرية الإسرائيلية، ولكن تفجر معركة عسكرية في قطاع غزة نقل دائرة الفعل الكفاحي بشكل درامتيكي إلى قطاع غزة نظراً لخطورة ما يجري في قطاع غزة حيث بشاعة الجريمة الإسرائيلية وإبداع المقاومة التي تصدت بكل ببسالة وإقدام للعدوان.
ما جرى في الضفة الغربية وقطاع غزة وما تخلله من تضحيات كبيرة في الأرواح والممتلكات لا يمكن بأي حال من الأحوال إعادة إنتاجه على شكل إتفاق جديد للتهدئة، ينكر أسباب المعركة ولا يستجيب للحد الأدني من أهداف ومطالب الفلسطينيين، والحل الذي يتجاوز تلك الأسباب سينهار كما إنهارت إتفاقات سابقة أغفلت الحقيقة لصالح الرواية الأمنية الإسرائيلية.
القيادة السياسية الفلسطينية أمام تحدي جديد، فقد إستفادت مرحلياً من حالة التصعيد الثوري وتلاحم أبناء الشعب الفلسطيني بعد أخطر مراحل العزلة مع جماهير الشعب الفلسطيني الناتجة عن إدارة الظهر وسياسات التفرد بالقرار الوطني، وهي أمام فرصة تاريخية لن تتكرر لإعادة صياغة الحالة الفلسطينية بمستوياتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وتكرار التجارب الفاشلة لن يجدي نفعاً أمام هذا السيل من الدماء والدمار الذي خلّفه الإحتلال، وعليها أن تقدم عشرات الأجوبة للشعب الفلسطيني، منها ما هو طارئ مثال إعادة الإعمار وإيجاد مأوى لآلاف النازحين الذين هدمت منازلهم، إضافة إلي توقيع "ميثاق روما" الذي سيؤسس لمحاكمة قادة الإحتلال، ومنها ما هو مؤجّل إلى حين إنقشاع غبار المعركة.
بقاء السلطة ووظائفها والموقف من التنسيق الأمني والمفاوضات، هزالة حكومة التوافق الوطني شكلاً ومضموناً، المصالحة الشاملة وملف منظمة التحرير والإنتخابات، البرنامج السياسي والكفاحي الذي يمثل الشعب، الموقف من الإستيطان وكيفية مواجهته، سياسات الإبتزاز المالي والوظيفي التي سادت في عهد عباس، وعشرات الأسئلة بإنتظار قيادة الشعب الفلسطيني للإجابة عنها كمقدمة ضرورية لكي يقتنع المواطن الفلسطيني بجدوى بقاء هذه القيادة والسلطة من عدمه.
لقد قدّم الشعب الفلسطيني على مدار تاريخه نماذج رائعة من البطولة والتضحية في مواجهة الإحتلال وسياساته، وكانت ولا زالت المشكلة المزمنة والكأداء في أداء القيادة التي أبتلي بها الشعب، وستجيب قادم الأيام إن كانت هذه القيادة قادرة على تغيير نهجها وأدائها أم لا، وهي في كل الأحوال أمام محك تاريخي ولم يتبق لديها الكثير من الفرص.