قد يبدو هذا المطلب غريبا على البعض، أو قد يراه البعض الآخر انه غير قابل للتحقق، أو انه صعب المنال لان دولة العدوان تتمتع بمساندة قوى عظمى في مقدمتها شريكتها في العدوان على الشعب الفلسطيني، الولايات المتحدة،
من يعود إلى الحقبة النازية، والقوة التي كانت تتمتع بها الدولة الألمانية خلال تلك الفترة من سيطرة وسطوة على العالم، يدرك تماما، انه كان من المستحيل تخيل الإتيان بقيادات الدولة النازية وملاحقتهم ومن ثم تقديمهم إلى المحاكم في نورمبرغ، تلك المحاكمات التي تعتبر الأشهر في التاريخ الحديث والتي استهدفت مجرمي الحرب في القيادة النازية.
تلك المحاكمات لم تقتصر فقط على الجنرالات الذين شاركوا في الحروب والمعارك المختلفة التي خاضتها دولتهم، ولكنها امتدت لتصل حتى إلى محاكمة الأطباء والحراس في السجون، وكل من ارتكب جرما يشتبه بأنه يعتبر فعلا ضد الإنسانية بما في ذلك الزج بالمدنيين في سجون تتسم بأوضاع غير إنسانية.
ما تمارسه دولة الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطيني، وما مارسته منذ نشأتها،كانت كلها أعمال كفيلة بجلب القادة الصهاينة للمحاكم الدولية، لو توفر الحد الأدنى من العدالة والتطبيق الفعلي للقوانين الدولية، إلا ان ما حدث هو ان هذه الدولة كانت تجد من يوفر لها الغطاء في الهيئات والمؤسسات الدولية، وهذا ما شجعها على التمادي في غيها والمضي في ممارسة فظائعها، ليس ضد أبناء فلسطين فقط، ولكن ضد العديد من أبناء الشعوب العربية، وفي المقدمة لبنان، وفي مصر وسوريا.
من غير المنطقي وغير المقبول أن يفلت أي من قادة الكيان المجرم مما ارتكبت أيديهم، خاصة وان هذا الإيغال في الدم الفلسطيني يأتي على خلفية شعور سائد لدى هؤلاء انهم وفي كل مرة يرتكبون فظائعهم إنما يفلتون من العقاب ، وأن لا احد يهتم بالدم الفلسطيني، هذا الشعور ناتج أيضا عن التردد الذي نشهده من قبل القيادة الفلسطينية في الذهاب إلى محكمة الجرائم الدولية، وعدم متابعة قضايا مثل الجدار وتقرير غولدستون.
الحجج التي يسوقها البعض من القيادات الفلسطينية، غير مقنعة وهي تعكس شعورا عاما بعدم التعامل بجدية مع هذه الملفات، خاصة وان ما ارتكبته دولة الاحتلال يفوق أضعاف أضعاف ما قد يوجه من اتهامات للجانب الفلسطيني. كما ان ما تردد في بعض وسائل الإعلام عن قيام وزير الخارجية بسحب الشكوى المقدمة من وزير العدل سليم السقا وعدم صدور رد رسمي ينفي ذلك، يجعلنا نتساءل عن الجدية في التعامل مع هذا الملف من قبل الجهات الرسمية الفلسطينية.
خشية البعض الفلسطيني من أن التوجه إلى لاهاي وجلب قادة الاحتلال إلى قفص الاتهام، قد يكون سيفا ذو حدين، لم يعد مبررا ومن هنا فان الرد يجب ألا يكون بالتردد أو الخشية، بل بالتصميم على المواجهة في تلك المحاكم، وهي مواجهة لا تقل أهمية عن أي مواجهة سياسية أو دبلوماسية أو عسكرية.
لطالما تم ترديد ان من أهم الأهداف للذهاب إلى الأمم المتحدة لنيل العضوية سواء كدولة مراقب او دولة عضو كامل العضوية، هو من اجل استكمال الخطوات في الذهاب إلى محكمة الجرائم الدولية، إلا أن ما حدث بعد أن تحقق ذلك هو تردد وخشية غير مفهومة.
أما وقد وقعت الفصائل – كما يشاع- على الذهاب إلى ميثاق روما ومن ثم إلى لاهاي، فاته أصبح من غير المبرر كل هذا التأجيل والتردد في ظل هذا الكم الهائل من الجرائم،وفي ظل هذا الشلال من الدم المسفوك في قطاع غزة.
إن دماء وأرواح الشهداء تستصرخ القيادة الفلسطينية في هذا الإطار، وستبقى تلك الدماء والأرواح في رقبتهم حتى يأتوا بكل من أجرم بحق طفل فلسطيني، أو بحق امرأة او شيخ،إلى المحاكم الدولية، وسوف تهتز أركان الدولة الصهيونية مع وقوف أول مجرم في قفص الاتهام في تلك المحاكم.
هذا الملف في الحقيقة لا يلزمه سوى الإرادة والتصميم، خاصة في ظل وجود عشرات إن لم يكن مئات وربما آلاف القانونيين والمحامين والمتخصصين في القانون الدولي في العديد من دول العالم، الجاهزين للتطوع في حمل هذا الملف والدفاع عنه وتبنيه حتى النهاية.
التسويف والتردد والتأجيل في نقل هذا الملف إلى لاهاي، سوف يُبَهت القضية ويعمل على "تمويتها" وسيشجع أيضا على أن ترتكب دولة العدوان المزيد من الجرائم، ولن يتم اخذ التهديدات المتتالية من الطرف الفلسطيني بنقله إلى لاهاي على محمل الجد، فيما سيعمل نقله إلى المحكمة على كبح جماح المجرمين في تل أبيب وعدم استسهال القيام بجرائم في المستقبل.
ومن اجل القيام بعمل يتسم بالعلمية والتأثير، فلا بد من توثيق كل ممارسات وجرائم الاحتلال وقياداته ومستوطنيه، من اجل تقديمهم إلى المحاكم الدولية، والتخلي عن التردد في هذا الشأن بحجج وذرائع مختلفة، ومن هنا فلا بد من تشكيل هيئة وطنية متخصصة، تقوم بعملها بشكل علمي مدروس ومتراكم، وحتى لا تكون الجهود مبعثرة ومشتتة، بحيث تصب في نهاية المطاف ضمن إطار محدد يمكن اللجوء إليه عند الحاجة.