هل كنا بحاجة إلى حرب مسعورة على غزة كي نلفظ الشحناء والبغضاء بيننا التي تسللت إلينا على مدار السنوات السابقة؟، هل كنا بحاجة لأن نرى أسراً كاملة تحت الأنقاض كي ندرك أن آلة الحرب الإسرائيلية لا تفرق بين الشباب والأطفال والنساء والشيوخ؟، وهل كنا بحاجة لأن تختلط أشلاء شهدائنا كي نعي حقيقة أن الفلسطيني بغض النظر عن انتمائه الفصائلي هو الهدف لآلة حرب العدو الاجرامية؟، وهل كنا بحاجة لأن تسيل دماؤنا بغزارة كي نصطف خلف موقف موحد في مواجهة عدو هو الأكثر وحشية وبربرية في التاريخ الحديث؟.
يبدو أننا كنا بحاجة إلى كل ذلك كي نعيد مشهد التكاتف والتعاضد الذي افتقدناه على مدار السنوات السابقة، تلك الصورة الرائعة التي عشناها بتفاصيلها الدقيقة ابان الانتفاضة الأولى، وما زلنا حتى يومنا هذا نتغنى بها، التلاحم المجتمعي ظهر خلال الحرب الوحشية على غزة بصورته الرائعة ليس فقط في احتضان الشعب لمقاومته، بل أيضاً في تمتين الجبهة الداخلية والتلاحم بين فئات المجتمع المختلفة بما يعزز صمود الشعب في مواجهة جرائم الاحتلال.
ما يقارب من نصف مليون مواطن اضطروا، تحت وقع القذائف المتلاحقة التي استهدفت منازلهم، لترك أماكن سكناهم والتوجه لمراكز المدن، تمترسوا في البداية في منازلهم، بقوا فيها برفقة من سقط منهم شهيداً، لم تسعفهم المسافة الفاصلة بين قذيفة واخرى في مداواة جرحاهم، صراخ الأطفال دفع الكثير للتسلل من تحت القذائف المنهمرة فوق رؤوسهم بحثاً عن أماكن أقل قصفاً، هم يعرفون أنه لا توجد منطقة آمنة في القطاع، لكنهم لا يبحثون عن المناطق الآمنة لأطفالهم بل تلك الأقل خوفاً ورعباً لهم.
معدن الشعب الحقيقي تجده عند الشدائد وليس في أوقات الاسترخاء، منازل المواطنين فتحت لاستقبال العائلات التي غادرت مساكنهم جراء القصف المركز لآلة الحرب الإسرائيلية التي استهدفت البشر والحجر والشجر، فتحت دواوين العائلات وكل ما يمكن له أن يتسع للإيواء، غابت الحزبية وتلاحم الجميع لتقديم ما يمكن له أن يخفف من وطأة النزوح.
لا شك أن روح التكاتف جعلت من الأماكن الضيقة متسعاً لاستيعاب أضعاف مضاعفة لقدرتها الاستيعابية الطبيعية، ولا شك أن هذه الروح عززت من صمود الشعب في مواجهة جرائم الاحتلال، وأعادت للشعب واحدة من أهم المقومات المطلوبة لمواجهة عنجهية وبربرية الاحتلال، ولا شك أننا اليوم بحاجة لكل ما من شأنه أن يرسخ هذه القيمة داخل مجتمعنا الفلسطيني، وأن نرفدها بالعمل الجمعي الذي تشارك فيه كل فئات المجتمع الفلسطيني، وبطبيعة الحال للنخبة السياسية الدور الطليعي في ذلك، إلا أن المسؤولية تتمدد للكل الفلسطيني لتكريس هذه الثقافة والقيم النبيلة.