ما بعد العصف المأكول

بقلم: أسامة نجاتي سدر

لم تكن قصة أصحاب الفيل حدثا عابرا في تاريخ العالم، ليس ذلك لندرة أحداثها وأهمية شخصياتها، وليس لأنها معركة فصلت بين حق وباطل، إنما لأنها فصلت بين من اعتمدوا على الله وحده ومن اعتمدوا على قوتهم وجبروتهم؛ فما كان من الله إلا أن حمى بيته ورد الحق لأهله وقضى على المعتدين فجعلهم كعصف مأكول، ثم ذكرها في كتابه العزيز لتكون عبرة للبشرية إلى يوم الدين.

تغير العالم بعد هذه الحادثة بأسرع مما يمكن توقعه، ففي ثلاث وستين عاما توحدت جزيرة العرب وأصبحت أمة يخشاها الروم ويحسب لها الفرس حسابا، انتقل رعاة الإبل وعبيدهم إلى رعاية الأمم ورفع راية الحق والعدل في أرجاء المعمورة، وانتقلت مكة من مدينة صحراوية مغمورة إلى منارة للعالم تقبل عليها القلوب والعقول من مختلف أرجاء الكون.

فلله درُّ المقاومة في غزة، وكأنها ترى نتائج معركتها مع الأعداء بنور من الله حتى تستحضر اسم العصف المأكول في أولها لتحقق نفس نتائج الحادثة بإذن الله، ولئن ادعى البعض أن المعركة لم تنته حتى الآن فهو واهم، فليس لليهود ومن هاودهم مناص من التسليم بمطالب المقاومة جميعها ولو بشروط شكلية أو إجرائية، أو العودة إلى جحيم الحرب الذي لم ولن يقبل به مغتصبو مدن فلسطين التاريخية أو المحتلة، ترى بنظرة عابرة على المجتمع الصهيوني المصدوم بقوة المقاومة التي بثت الرعب في مواطنيه لدرجة أنهم لا يجرؤون على مفارقة الملاجئ، بل يقررون عدم العودة نهائيا إلى مغتصباتهم، وربما الرحيل وربما الهجرة نهائيا عن الكيان مما اضطر الحكومة إلى إغلاق المطارات بحجة صواريخ المقاومة لمنعهم، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية في جميع القطاعات وحملة المقاطعة المتصاعدة.

أول بشائر النصر هو تخبط العدو واضطراب قادته السياسيين والميدانيين منذ بداية المعركة بعد أول عملية نوعية نفذتها المقاومة، ثم صيحات الرعب من الملاجئ في تل أبيب وحيفا إثر إطلاق الصواريخ، ومفاجأة المقاومين في المواجهة وخاصة حينما تكون على مسافة الصفر، وتوقف حركة الملاحة الجوية في المطارات، وتدخُّل مصر بمشروع هدنة تحفظ ماء وجه المحتل وتضع المقاومة في متاهة مفاوضات لا مانع لدى إسرائيل أن تستمر لمئة عام، وتجلى نصر المقاومة بوقوف شعب غزة مضرجا بدمائه حاملا شهداءه درعا حصينا يحمي المقاومة من الذئاب التي شمرت عن أنيابها لتنهش فيها، ثم أسر جنود إسرائيليين ليفتح باب الأمل لآلاف خلف القضبان، واصطفاف محور أمريكا الصهيوني لسحق المقاومة وإنهاء سلاحها، وخروج وفد فلسطيني موحد من كافة الفصائل يحمل الأمانة بصدق من الشعب الفلسطيني مباشرة.

شهد العالم على جبروت المقاتل الفلسطيني في هذه المعركة وقدرته على إدارتها ميدانيا وداخليا وإعلاميا ودوليا، فقد كان للمقاتل صاحب العقيدة الصحيحة وسائل قتالية وأدوات مساعدة وخطة عسكرية دُرّب عليها في نفس ساحة المعركة، وجهاز أمن داخلي قادر على كشف العملاء أثناء المعركة ، ثم خطة إعلامية متكاملة تعتمد على الميدان وتحتوي على مفاجآت ترفع معنويات الشعب وتثبط العدو دون أن تتجاهل آلام وجراح المدنيين، ولما عرضت عليهم الهدنة المشينة رفضها القادة بكل حزم وتباهوا بصمود شعبهم والإنجازات الميدانية وفرضوا شروطاً تحقق ما تمناه الشعب منذ سنوات طوال وترسم مستقبلا زاهرا لغزة وفلسطين، لكن قطف ثمار النصر يحتاج لحنكة خاصة حتى لا تضيع البطولة والدماء بين تعنت العدو وخيانة القريب.

كشفت غزة كعادتها أقنعة النفاق والذل والخذلان والخيانة، فظهر للعالم من يناصر فلسطين ويعتبرها قضيته ومن يعتبرها حملا ثقيلا يثقل كاهله ويقتل طموحاته برفاهية إرضاء إسرائيل وأمريكا، والأهم أنها كشفت معالم مستقبل القضية الفلسطينية، وكسرت سيناريوهات التنازل والتسوية الذليلة المطروحة، لتشع سيناريوهات النصر والتحرير والعزة والكرامة، وعبرت المقاومة بالأمة العربية بابا لا يمكن لها أن تعود من خلاله إلى الرضى بالتخلي عن فلسطين بحجة ضعف أو خنوع أهلها، بل مسحت مكياج التقدم والحضارة والشرف عن وجه إسرائيل، لتظهر كدولة ضعيفة لا تقوى على محاربة مجموعة صغيرة تصنع أسلحتها بيديها بطريقة بدائية دون أي تكنولوجيا عسكرية، وتفرغ حقدها في أطفال لا يشفع لهم أنهم لم يروا نور الدنيا بعد، ومن يلهون على شاطئ البحر في العيد والنساء والشيوخ.

لولا تلك الدماء الزكية التي ستكتب فيها صفحات النصر في القريب العاجل إن شاء الله لتمنيت أن هذه الحرب كانت منذ زمن، فصوت الأحمد يصرح ضد المحتل باسم وفد يضم أعضاء من حماس والجهاد بقوة لم نعهدها إلا في المناكفات بين الفصائل يطرب الفلسطينيين جميعا، وصورة فلسطين الذي أشعت في جميع القارات يبهج عيونهم، وصراخ الأحرار حول العالم في مظاهرات كادت أن تكون كمليونيات رابعة العدوية نصرة لأطفال غزة يسعد قلوبهم، واجتماع الأمة على مطالب المقاومة المشروعة يشرح صدورهم، وانهيار القناع عن الحلف الصهيوعربي الحاقد يشفي صدورهم.

معركة العصف المأكول علامة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية والأمة العربية ، فلابد أن يختلف ما بعدها عما قبلها، فلا يمكن أن تضيِّع المقاومة دماء شعبها وإلا انتحرت وجاز للشعب أن يطالب بنزع سلاحها، ولا يمكن لإسرائيل أن تعود لأجواء الحرب المرعبة لأن تكلفتها أكبر من أن تتحملها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ويحتاج الاثنان إلى هدنة طويلة تنسيهم عذابات الحرب وآلامها، ولا يمكن لمصر أن تقف ضد المقاومة فتقف المقاومة ضدها وتتغلغل فيها وهي في حربها ضد ما تسميه الإرهاب.