امام انتصار المقاومة في لبنان وانتصار غزة نتوقف لنقول، إن الإنسان العربي في حقيقته الجوهرية إنسان نوعي لا يقبل الضيم والمهانة والذل ومستعد لدفع حياته ثمنا لكرامته ، لذا فان إمكانيات صمود هذه الأمة وقدرتها على مواجهة التحديات أسطورية وتفوق كل خيال لاستنادها إلى قيم ومبادئ وهذا بالفعل ما نراه من الشعبين الشقيقين اللبناني والفلسطيني ، حيث قالوا للعالم بان المقاومة هي الخيار فكان انتصار عام 2006 للبنان ومقاومته رغم التضحيات الجسام اسطورة ، كما كان صمود غزة على مدار سنوات وانتصاراتها تشكل النموذج الحي بارادتها وشهدائها ، فادوات الاستعمار تريد تحويل الشعوب إلى العصور الجاهلية أو عصور قبل التاريخ ، ولكن تفكير الإنسان العربي يريد ازالة هذه العصور ، يؤكد ان فلسطين ستبقى هي القضية المركزية وهي واجهة الاحداث .
ومن هنا تعكس تطورات العدوان البربري الإسرائيلي على قطاع غزة، نفسها، على الجهود الرسمية الرامية إلى وقفه، وإيجاد حلول لمسبباته أيضاً، مقبولة من الجانب المعتدى عليه أولا، هذا في وقت تتفاعل فيه يوميات هذا العدوان على الصعد كافة، فلسطينيا وإقليميا ودوليا، وتؤشر إلى تعقيداته من جهة، كذلك إلى تداعياته من جهة ثانية.
المشهد العدواني الاسرائيلي وضعنا امام حربين داميتين في شهر تموز بصورة خاصة ، العدوان في تموز الأول كان يستهدف المقاومة اللبنانية فكانت خاتمته الفشل والهزيمة المعنوية والسياسية وحتى العسكرية بالمفهوم الاستراتيجي ، لأن عدم هزيمة المقاومة يعتبر هزيمة للقوة المعتدية لأنها الأقوى ، مع ذلك تبقى لهذه الحرب خصوصيتها ، كما للعدوان الاسرائيلي على قطاع غزة خصوصيته ، هذه الخصوصيات تشمل نقاط ومواقف متشابهة ، كما يوجد فيها الكثير من التفاوت لكن يبقى المعتدي واحد والسفاح الذي سفك دماء مئات الاطفال واحد وهو الكيان الاسرائيلي بكل قياداته العسكرية والسياسية الفاشية .
في عدوان تموز لبنان سنة 2006 طفا التواطؤ العربي ضد المقاومة اللبنانية بسرعة فوق سطح الاحداث ، كما ان هذا العدوان كان مدعوماً بغطاء امريكي يسعى لإقامة شرق اوسط لا وجود لسوريا اوالمقاومة في فلسطين ولبنان وايران فيه ، لكنهم فشلوا وانتصرت المقاومة التي كانت تملك عمقاً جغرافيا استراتيجيا على امتداد عشرات بل المئات من الكيلو مترات داخل لبنان وسوريا .
إسرائيل في كافة اعتداءاتها وحروبها على الدول العربية لم تكن بحاجة إلى مبررات للقيام بشن هذه الحروب، العدوان هو صفة ملازمة لكيان العدو، فلا تمضي سنوات من دون أن يقوم الكيان الصهيوني باعتداءات على هذه الدولة العربية أو تلك، أو تقوم بعمليات تخريبية أو اغتيالات لمناضلين في عواصم ومدن العديد من الدول العربية، ورغم وحشية العدوان هذه المرة على غزة ، وآثاره الكارثية، وآلامه الكبيرة، فهو اعاد فلسطين إلى واجهة الأحداث، بعد سنوات خريفية عربية، وأن الرد عليها، تمثل في وحدة الموقف الفلسطيني وصموده البطولي ، بوصفه الركيزة الأساسية لتحقيق المطالب الفلسطينية المحقة، وأن وصول هذه المفاوضات، غير المباشرة، إلى خواتيمها لن تثمر، إلا بإنجاز هذه الحقوق المقرّة دوليا.
وامام كل ذلك تعزز صمود الفصائل الفلسطينية أمام العدوان الصهيوني على قطاع غزة ، كما حصل 2008- 2009 ،وهو ما يعطي ويفتح الإمكانية على آفاق وطموحات فلسطينية وعربية، أبعد مدى من منع إسرائيل من تحقيق أهدافها في أي عدوان جديد قد تفكر في ارتكابه، نعم الصراع مع العدو الصهيوني يعود إلى مربعه الأول.
وغني عن القول فأن عدالة المطالب الفلسطينية وصمود غزة ومعها شعب فلسطين في الضفة الفلسطينية المحتلة، وفي أراضي الـ 1948 وفي دول الشتات، اكدت على وحدة الشعب الفلسطيني رغم ان غزة قدمت التضحيات الجسام .
ورغم مواصلة الجهود للتوصل الى الهدن الإنسانية والمؤقتة، ويستمر الصمود الفلسطيني الباسل، بتكاليفه البشرية والمادية الباهظة، في ظروف غير ملائمة ولا متناسبة مع ما يجري، ليؤكد أن قهر الشعوب غير ممكن، وأن فشل العدوان يترافق مع ازدياد الانتقادات والإدانة، وإن كانت غير كافية لكيان مغتصب للارض والمقدسات، وهو ما يضاعف من عزلته، ويظهر حقيقته للعالم أجمع.
فما الذي فعله المجتمع الدولي الذي يتشدق بحقوق الإنسان، امام ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من عدوان واستيطان وتهويد للارض والمقدسات ، ماذا فعل لمسيحيو العراق الذين يتعرضون لأكبر عملية تهجير واقتلاع من أرضهم يشهدها التاريخ الحديث، وكيف يمكن مواجهة هذا السرطان المستفحل الذي يعمل تفتيتا في جسد هذه المنطقة ، وطالت مخالبه مفاصل بعض الدول، وستطال دولا أخرى مازالت تنتظر عاجلاً أم آجلا ، دولا تمول الإرهاب نفسه من نفطها وغازها ليذكي نار وجوده ، اين قراراتها بدعم صمود الشعب الفلسطيني .
والسؤال الاخر ، هل كانت دعوة فرنسا لعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن هرولةً لفظيةً بعد سماع أصوات المتظاهرين الفرنسيين الذين أعلنوا ولأول مرة أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند متواطئ مع حكومة الاحتلال الصهيوني، حيث اثبت الشعب الفرنسي مع المقاومة التي تقودها الشعوب، ولاسيما نضال ومقاومة الشعب الفلسطيني.
كذلك اين مجلس الأمن الدولي من اتخاذ إجراءات فعلية ملزمة، وبخاصة إزاء ما يجري من إرهاب إسرائيلي في غزة والضفة الفلسطينية والقدس ، اين تطبيق قراراته الدولية بخصوص فلسطين ، واين مواقفه من الدول الداعمة للإرهاب وممولته الرئيسة، هل هذا السكوت لتمرير المخطط الصهيو-أمريكي للمنطقة من قبل عصابات ارهابية مأجورة ترتكب الجرائم والمجازر بحق الشعوب في كل مكان، للوصول لتصفية القضية الفلسطينية ، خدمة للحفاظ على وجود كيان العدو إلاسرائيلي وبقائه.
وهنا نقول ان هذا الصمود والانتصار والتضحيات كان لها صدى على المستوى العالمي ، فكان صوت شرفاء العالم وأحراره تقول للعالم اجمع ان دولة الكيان الصهيوني هي دولة إرهابية عنصرية بمواصفات تامة وهي تعيش منذ استعمارها لأرض فلسطين على التمادي في ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية وهي مصدر الازمات في هذه المنطقة والعالم.
نعم الشعوب قالت كلمتها ومعها مواقف النخب العالمية الداعمة للقضية الفلسطينية، من مثقّفين وإعلاميين ورياضيين وفنّانين وعاملين في مؤسسات ومنظمات دولية، فضحت تواطؤ المجتمع الدولي وكسرت صمته عن العدوان العنصري الصهيوني ، وكشفت ازدواجية مواقف الأنظمة والحكومات العربية التي لم تحرّكها دماء الأبرياء و جاءت التحركات الشعبية في لبنان المغرب والجزائر وايران وسوريا واليمن ، على تفاوت أعدادها وزخمها، لتثبت مرّة أخرى أنّ القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للامة العربية، وأن انتصار الشعب الفلسطيني أعادها إلى مرجعيتها الى دورها القومي .
ان معاني انتصار المقاومة في لبنان في حرب تموز على قوات العدو الصهيوني كثيرة وكبيرة ولعل من أبرزها انه لأول مرة في تاريخها وفي تاريخ الصراع العربي- الصهيوني، تجبرقوات الاحتلال على الانسحاب مهزومة ، كما ان صمود وانتصار غزة شكل درسا في مقاومة حركات التحرر الوطني وفي تجاربها النضالية، ولنهج المقاومة في المنطقة العربية، وعلى الصعيد الأوسع كان تحرك الشعوب في دول العالم وكان الصوت المدوي من امريكا اللاتينية من أجل رفع الحصار الظالم عن قطاع غزة ، كما كان دور الحركات والقوى الحزبية والشعبية والمؤسساتية غير الحكومية الصوت المدوي من أجل كسر هذا الحصار الظالم والجائر على شعبنا الفلسطيني.
وامام كل ذلك لنكن مرة واحدة مبادرين لاستثمار كل ذلك بالاتجاه الصحيح من خلال التوجه الفوري للمؤسسات الدولية من اجل توفير الحماية الدولية المؤقتة لشعبنا،وحسم خياراتها بالإنضمام لمحكمة الجنايات الدولية وبقية مؤسسات الأمم المتحدة بدل حالة التردد والإرباك.
ختاما : نحن نرى أن هناك مسؤوليات كبرى تقع على عاتق القوى والأحزاب والحركات الوطنية والتقدمية والقومية العربية والشعوب العربية، في دعم صمود ومساندة شعبنا الفلسطيني، والمسألة بحاجة الى ما هو اكثر من مسيرات ومهرجانات ومؤتمرات وتنديدات واستنكارات،ففي الوقت الذي يضحي فيه الشعب الفلسطيني ويدفع مئات الشهداء والاف الجرحى، بات مطلوبا تحركات جماهيرية جدية لها فعل وممارسة على الأرض بدعم صمود ومساندة شعبنا الفلسطيني.
فلأرواح شهداء المقاومة في لبنان وفلسطين ألف تحية وسلام، فأنتم المشاعل التي ستنير الدرب والطريق لكل المناضلين السائرين على هديكم ونهجكم.
كاتب سياسي