أعتقد أنه سيتم تمديد التهدئة، بهذه الكلمات جاءت مداخلة إبني الصغير في الحوار الأسري المكثف والمركز في الساعة التي سبقت موعد إنتهاء التهدئة، تلك الساعة التي ينشغل فيها الجميع في إلتقاط كل شاردة وواردة لها علاقة بالمفاوضات في القاهرة، وتخضع كل معلومة صغيرة كانت أم كبيرة لسيل من التحليل والتعليق والتعقيب، وللأطفال نصيب في ذلك، فلم تعد سنوات عمرهم القليلة تقف حائلاً دون خوضهم غمار الحوار عن الحرب والتهدئة، ولم يعد من المقبول لديهم التزام الصمت عندما يتحدث الكبار، بل لم يعد ما يقوله الكبار ملزم لهم بتصديقة والأخذ به، أخفق الكبار كثيرا في إستشراف أحداث الساعات والأيام القادمة في الحرب التي لا يوجد لها ضوابط تحكمها، ففتح ذلك شهية الأطفال لأن يقتحموا عالم التحليل دون الجزع من إخفاق لطالما وقع فيه الكبار.
تعلم الأطفال من الحرب ما لم يتعلموه في المدارس ولا تتضمنه مناهجهم التعليمية، باتت لديهم القدرة على تمييز الانفجارات الناجمة عن قذائف الدبابات وتلك القادمة إليهم من صواريخ الطائرات، وباتت لديهم القدرة على تمييز الأخيرة إن كانت من طائرة بدون طيار "زنانة" أو من طائرة مقاتلة من فئة "F 16"، وبطبيعة الحال اكتشفوا مبكراً الفرق بين الصاروخ "الطالع والنازل"، تتمدد أجسادهم فرحاً بالأول فيما تنكمش على ذاتها عند الاخر، تعرفوا بدرس عملي تكرر مراراً أمام أعينهم الفرق في السرعة بين الصوت والضوء، حملوا شظايا قذيفة بين أناملهم وأفاضوا في شرح يحمل الطابع العسكري بما تحدثه لحظة انشطارها.
عدد الشهداء من الأطفال يؤكد بأن الطفولة لم تكن بمعزل عن بنك الأهداف الإسرائيلية، وصور أشلاء الأطفال لم تخف شيئاً من بشاعة الجرائم، هم من دفعوا من دمائهم أكثر من غيرهم لإشباع رغبة "دراكولا العصر"، كانت أجسادهم الطرية في مواجهة الفولاذ وحممه، تناثرت أشلاء أجسادهم لترتطم بجدار الإنسانية دون أن يصحو ضمير البشرية من سباته العميق.
بقدر ما يثير حديث الأطفال عن الحرب وتداعياتها من إعجاب، تشعر من خلاله أن السياسة لم تعد حكراً على الكبار ولمن شاخوا وشاخت معهم أفكارهم، بل باتت ملعباً من حق الصغار التواجد فيه، حتى وإن اقتصر دورهم على المتفرج إلا أنه يسمح لهم بالتعليق والتعقيب، وهذا بالتأكيد يمهد الطريق أمامهم لإقتحام عالم الرجولة مبكراً، وينذر محترفي السياسة بأن عليهم بذل المزيد من الجهد لإقناع الصغار بما كان هيناً عليهم إقناع الكبار به.
إلا أن إقتحام الصغار لمفردات الحرب وأدبياتها في الوقت ذاته يثير الشفقة عليهم، على طفولة غادروها رغماً عنهم، على أطفال رحلوا عنهم تاركين ذكرياتهم للأحياء على مقعد الدراسة وفي مساحة اللعب في الأزقة والحواري، على خوف يطوقهم يجهلون مكر الكبار في إخفائه، على غدهم إن كان الماضي والحاضر سيواصلان تواجدهما فيه، وإن تراجعا عنه فهل الغد بإمكانه التنصل منهما؟، علينا ألا نتجاهل حقيقة أن أطفالنا بإستطاعتهم مسح وتعديل ما شاء لهم في ذاكرة أجهزتهم الصغيرة، ولكن ليس بمقدورهم فعل ذاك في ذاكرتهم، فيها ينقشون ما يرونه لا ما نراه، خوف الكبار ومكر الصغار.