بدون شك إن الإيمان بالقضية والإصرار على نيل الحق في الحرية والتحرير وتحقيق الكرامة الإنسانية تعزز الجانب النفسي والإجتماعي للصمود والتحدي أمام وجه المعتدي المحتل كما أن الإعتقاد بالصبر عند وقوع المصيبة إحتساباً للأجر عند الله وتحقيقاً للنصر الذي يبتغي أن يناله نتيجة تضحياته يزيد من القدرة النفسية على التحمل لما يقع من أحداث مؤلمة أثناء الحرب والعدوان .
لكن النفس البشرية تبقى ذات قدرة محدودة على تحمل الخبرات والمواقف والأحداث الصعبة التي تحيط بها أثناء الحرب كما أن الفروقات الفردية بين الناس تجعل البعض منهم أكثراً تحملاً من الآخر لما يمر به من تجربة أليمة، وكذلك من يكونون في خط المواجهة الأول يكونون أكثر تعرضاً للأحداث الأليمة وما يلحقها من معاناة وألالام نفسية وإجتماعية ممن يعيشون بعيداً عن خط الواجهة .
فالحرب العدوانية على قطاع غزة لم تكتفي أن تدمر أملاك المواطنين وتؤذي حياتهم العامة من خلال تدمير بيوتهم وتشتيت أسرهم ونزوحهم من مناطق سكنهم وتعطل الحياة الإجتماعية اليومية لتحولها إلى حياة تشتت وخوف وشعور بالتهديد وعدم الأمان وإنتظار الموت بل لها تبعات نفسية وإجتماعية عديدة على كثير من المواطنين سواء أثناء الحرب وإستمرارها أو بعد إنتهائها والتي في كثير من الأحيان الزمن كفيل أن يعالجها ولكن تبقى أيضا للكثيرين جانب من المعاناه التي يصعب الخروج منها دون تدخل إرشادي أو علاجي خاصة لدى الأطفال الأكثر ضعفاً في دائرة الحرب اللعينة .
التكافل والمساندة
إن المشاهد التي تكررت أمامنا وما زالت على شاشات التلفاز لما يحدث في قطاع غزة أثناء الحرب وعدوان صهيوني من قتل أفراد عائلة بالكامل وفقدانهم بصورة مفاجئة وبقاء فرد واحد أو أكثر من أفراد الأسرة ، ورؤية الأشلاء المقطعة والشهداء ومناظر الدماء ، القصف العشوائي المفاجيء لأي مكان ، رؤية الأطفال الصغار وهم في حالة من الرعب والخوف والبحث عن الأهل في الأحياء وفوق الأنقاض و داخل المستشفيات، تساؤل الأطفال عما يحدث وسبب ذلك وبحثهم عمن فقدوهم من أخوتهم الصغار أو أصدقائهم، سقوط الصواريخ المفاجئ وسماع صوت الإنفجارات التي تزلزل الأرض ، عدم الحصول على الراحة والنوم الكافي نتيجة الخوف من القصف المفاجئ ، الصراخ والبكاء الشديد لرؤية جميع الأبناء شهداء أمام الأم أو الأب أو الوالدين، رؤية الطفل لوالدية وهم شهداء أو قتلهم أمام عينيه ، العودة إلى البيت أثناء الهدنة ورؤيته دماراً شاملاً واختفاء معالم الحي والمنطقة السكنية، الجرحى وفقدان الأعضاء أو البقاء في حالة إعاقة دائمة، رؤية أو سماع الطائرات في السماء بصورة دائمة، المجازر الجماعية التي ترتكب ، كل تلك االمشاهد وغيرها التي شاهدناها تركت أثراً نفسياً للكثير من المشاهدين أينما كانوا من مشاعر سلبية من الحزن والإحباط والشعور بالتقصير في نجدة أهلنا في قطاع غزة والإحساس أن هذا العدو لا يؤمن مكره وأن دائرة الحرب والقتل ستكون يوماً ما على الفلسطيني أينما وجد وإعادة إلى الذاكرة مجازر صبرا وشاتيلاً و غيرها من مجازر الكيان الصهيوني الكثيرة في تاريخ القضية الفلسطينية ،الشعور بالظلم والرغبة في الخلاص من هذا العدو والتيقن بعدم عدالة المجتمع الدولي إتجاه القضية الفلسطينة، وزيادة مشاعر حب التضحية والإنتقام من العدو على جرائمه تلك لدى الكثير من الشباب والجيل الصاعد وتوحيد الصف الفلسطيني في مواجهة هذا العدوان والمسارعة إلى التكافل الإجتماعي وتقديم المساعدة المادية بأنواعها إلى الأهل في قطاع غزة .
معاناة من هم تحت القصف
إذا كان الكثير ممن هم خارج الحرب وبعيداً عنها تأثر بالمواقف والمشاهد الأليمة لما يحدث من عدوان على أهلنا في قطاع غزة فكيف بمن هم تحت المواجهة والقصف الدائم أثناء الحرب ، كيف هي مشاعرهم وحالتهم النفسية ؟ وما هي الأعراض المتوقع أن تلحق بالبعض بعد إنتهاء هذه الحرب وخاصة الاطفال كونهم في مرحلة نمو وتطور لبناء الشخصية وتشكيل سلوكياتهم كيف ستؤثر عليهم الحرب ؟ .
النفس الإنسانية تتشكل من بناء المفاهيم والقيم المكتسبة من البيئة المحيطة وما يصاحبها من عواطف ومشاعر تكتسبها من خلال الإدراك بالحواس فالتجربة التي يمر بها الطفل لا بد أن تبقي أثرها بصورة كبيرة على بناء شخصيته وتشكيل ذاته ومشاعره وكيفية تعامله مستقبلا مع الحياة وإنخراطه في الحياة الإجتماعية ،كما أن الإنسان الناضج من الممكن أن تبقى بعض المعاناة والأعراض عليه نتيجة لمروره بتجارب ومواقف أليمة أثناء الحرب تنعكس على شخصيته وسلوكه وعلاقاته مع الآخرين، فمن فقد أسرته كاملة أو هدم منزله وضاع كل ما يملكه وتشرد في مدارس الإيواء أو من شاهد مناظر المجازر والقتل أمام عينيه أو سمع بصورة دائمة أصوات الإنفجارات وسقوط الصواريخ، أو من فقد عضواً من أعضائة وأصبح معاقاً كل ذلك وغيره لا بد أن تبقى صوره في ذاكرته والتي ستثير بين فينه وأخرى المشاعر المؤلمة أو الأعراض السلوكية السلبية إن لم يستطع تخطيها أو طلب المساعدة الإرشادية والعلاجية لها .
فحسب علم النفس الحربي والصراعات هناك عدة أعراض تظهر على المواطنين سواء قبل وقوع العدوان أو بعد وقوعه حيث تبدأ بمشاعر الخوف والقلق والتوتر والشعور بالتهديد والموت والبقاء في حالة ترقب للقصف والبحث عن الأماكن الأكثر أماناً وفقدان النظرة الإيجابية للحياة والتفكير بالمستقبل والتخطيط له، أما أعراض ما بعد وقوع العدوان فهي الشعور بالخوف والتوتر وسرعة الإنفعال والغضب وشدة الحساسية وردات الفعل العصبية السريعة لسماع أصوات شبيهة بالإنفجار أو صوت الطائرات، الإكتئاب والإحباط أنواع من الفوبيا والعزلة وعدم قدرة على التواصل مع الآخرين وصعوبة النوم وأحلام مزعجه إعادة شريط الأحداث لتجربة الحرب بصورة متكررة وبعض الأعراض الجسدية مثل الصداع وفقدان الشهية والمغص والقولون وخفقان في القلب وسرعة غثيان وغير ذلك
أما الأطفال أكثر الأعراض لديهم هي الخوف والتوتر والصراخ في الليل التبول اللاإرادي، العزلة وعدم الرغبة في اللعب ومشاركة الأخرين، الخوف من الذهاب للمدرسة، الإلتصاق بالأهل وخاصة الوالدة، فقدان الشهية للطعام، كثرة السؤال عمن فقدهم والموت، والألعاب الشبيهة بالحرب وتقليد الشهداء ومناظر الحرب ، الصمت وقلة الكلام تلعثم الكلام وعدم قدرة على الإستيعاب وضعف قدرات التعلم ، الحركة الزائدة ، زيادة العنف .
إن المواطن الفلسطيني نتيجة ما اعتاد عليه من عدوان الكيان الصهيوني المتكرر ولد لديه إعداداً نفسياً قوياً لما يمكن أن يقع عليه من أحداث مؤلمة وشديدة مما زاد من صلابته وقوة تحمله وإصراره على الحياة الكريمة وظهر ذلك في سرعة العودة للحياة العامة ورسم البسمة على الوجوه خلال ساعات قليلة من الهدنة حيث قامت الأعراس والأفراح داخل مدارس الأيواء رغم الدمار والتشريد كما لبس الأطفال أثواب العيد ولعبوا بالقليل من بقايا ألعابهم .
لكن ذلك لا يمنع من أن تحدث هذه الأعراض للكثيرين من الناس عند تعرضهم لأحداث الحرب المفاجئة والأليمة لأن النفس الإنسانية والعقل البشري مهما حاول أن يبرمج نفسه على وقوع أصعب الكوارث والضغوط النفسية والقدرة على تحملها لا يستطيع أن يضمن قدرته على ذلك عند وقوعها حقيقة لذلك يجب أن لا نستهين بدور علم النفس والإجتماع في مساعدة الناس قبل وأثناء الحرب وضرورة التهيئة والإعداد النفسي لذلك .
بعض الخطوات لتعزيز الإرشاد النفسي والإجتماعي للخروج من أثر الحرب
- زيادة الوعي الديني والوطني لدى المواطنين حول دور التضحيات في تحقيق الحرية والكرامة وإسترداد الحقوق وأن لا شيء يذهب دون مقابل سواء في الحياة الدنيا والآخرة .
- المسارعة في إحتواء الحالات الصعبة التي ظهرت عليها أعراض ما بعد الحرب سواء أطفالاً أم بالغين وتقديم العلاج والإرشاد النفسي والإجتماعي لهم .
- توعية المواطنين حول الأعراض التي من المتوقع حدوثها نتيجة أحداث الحرب المؤلمة و عدم السكوت عن أية حالة وجد فيها أعراض نفسية تحتاج للمساعدة .
- المسارعة في تعويض المواطنين وإعمار بيوتهم وتقديم التعويضات اللازمة حتى يستطيعوا إعادة بناء الحياة الأسرية من جديد .
- إشعار المواطنين أنهم في آمان وليس هناك ما يهدد وجودهم وحياتهم من خلال توفير المقومات الأسياسية وخاصة فرص العمل وحاجاتهم الضرورية للحياة .
- تجميع أهالي الحي الواحد المنكوب والحديث معهم عن معاناتهم ومشاعرهم
- مشاركة الأهالي في وضع خطط لإعادة الإعمار والبناء لحياتهم
- توفير مراكز وأماكن ترفيهه تساعد على خروج المواطنين من الحالة السلبية لما بعد الحرب ودمجهم بالحياة العامة بصورة سريعة .
- زيادة عدد الأطباء والأخصائين النفسين من أجل تقديم المساعدة السريعة واللازمة لكل من يحتاج إليها وخاصة لدى طلاب المدارس والأطفال .
- زيارة العائلات المنكوبة ومن فقدت العدد الأكبر من أبنائها ومساندتهم نفسياً ومعرفة حاجاتهم وعدم التخلي عنهم في أزمتهم .
- زيادة و تعزيز التكافل والمساندة الإجتماعية في المجتمع الفلسطيني وإرسال المساعدة اللازمة لقطاع غزة
- التواصل مع الأهالي من خلال الإتصالات أو وسائل التواصل الإجتماعي وغيرها من أجل الإطمئنان عليهم ومساندتهم
- فتح المعابر وطرق التواصل بين قطاع غزة والضفة الغربية والإصرار على ذلك .
- التواصل مع العالم الخارجي وبيان حجم المعاناة التي أوقعها العدوان الصهيوني على المواطنين الأبرياء في قطاع غزة .
- تبنى الحالات الإنسانية التي تحتاج لمساندة كبيرة ومساعدة دائمة من قبل مؤسسات أو أفراد لتبقى على تواصل دائم معهم .
أما الأطفال أهم أساليب الدعم النفسي لهم
- السماح لهم بالتعبير عن مشاعرهم
- زيادة إحساسهم بالأمان وضم الأهل لهم ومشاركتهم في النشاطات
- لعب الدراما عن هذه الحرب وتمثيل الأدوار
- الرسم والتعبير من خلاله عن المعاناه
- الحوار مع الأطفال وما يدور في داخلهم
- السماح له بتكرار ما يروية من أحداث وقصص أثناء الحرب
- التحدث معه عن المستقبل وأهدافه في الحياة
آمال أبو خديجة