اليرموك ومحمود درويش

بقلم: علي بدوان

قبل أيامٍ خلت، حلت الذكرى السادسة لرحيل الشاعر والأديب العربي الفلسطيني محمود درويش، عاشق فلسطين، وأحد رواد المشروع الثقافي الوطني الفلسطيني والعربي المعاصر، والخامة اللامعة والمعطاءة، والذي وصل لمصاف العالمية في مشواره الأدبي والشعري، متوجًا الأدب العربي بتاجٍ أممي.
محمود درويش، شاعر فلسطين المعاصرة، وأسطورة الكلمة، وصاحب البيان والتبيين في تدوين المسيرة الكفاحية المعاصرة للشعب العربي الفلسطيني بريشة وقلم الفنان المبدع. فكانت قصائده على الدوام، حكاية المشوار الفلسطيني، وتدوينٍ لبأسها، وسيرتها، وإنعطافتها في المراحل المختلفة.
نستذكر هذه القامة الكبرى في مسار العملية الوطنية للشعب الفلسطيني. القامة الكبرى التي أيقظت بمفرداتها وجملها الشعرية والنثرية مشاعر الناس، وألهبت دواخلهم الوطنية. فكان شعره العظيم قصة، وحكاية، ومادة سياسية، ووطنية بامتياز، لكل مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني والعربي المعاصر.
محمود درويش الذي عَشِقَ الورد الجوري الأحمر، وياسمين دمشق، لكنه عشق القمح أكثر، قمح فلسطين، قمح الفقراء وغلة حياتهم اليومية، وكدهم الكبير في مشوار الحياة المُضني.
محمود درويش عَشِقَ عطر الورد وأريجه، لكن السنابل كانت عنده أطهرْ, وأجمل وأنقى. فالأرض، والفلاح، والإصرار، ثلاثية عنده لا تقهر.. هذي الأقانيم الثلاثة هي الفلسطيني في فلسطين والشتات، فكيف تُقهر…؟
الشاعر محمود درويش من مواليد 1941، قرية (البروة) قضاء مدينة عكا في الشمال الفلسطيني المُحتل عام 1948. وقرية (البروة) من القرى المُهجرة التي جرى تدميرها عام النكبة، واقتلاع سكانها ودفعهم كلاجئين نحو لبنان وسوريا، فيما تحول آخرون من أبناء تلك القرية إلى لاجئين فوق أرض وطنهم في مدن عكا وحيفا ويافا، وبعض القرى داخل العمق المحتل من فلسطين عام 1948.
أسرة الشاعر محمود درويش كانت من جموع اللاجئين الفلسطينيين التي اتجهت نحو لبنان عام النكبة وإلى مدينة صيدا ومخيم عين الحلوة على وجه التحديد، والذي سبقه إليها عائلة فنان فلسطين المُبدع، الفنان الشهيد ناجي العلي.
لكن أسرة محمود درويش استطاعت العودة بعد فترة قصيرة لأرض فلسطين، وإلى قرية جسر الزرقا. أما في سوريا، فقد وصل البعض من أهالي قرية (البروة)، قرية الشاعر محمود درويش إلى مخيم النيرب في حلب عام النكبة. وما زالوا هناك يحملون في ثناياهم حلم العودة لفلسطين، ومنهم عائلة صديقنا (الفتحاوي الأصيل والعتيق) صالح هواش، وعائلة صديقنا الكاتب الفلسطيني محمد هواش، ابن مخيم النيرب، والموجود في رام الله، حيث يعمل في وزارة الثقافة الفلسطينية.
زار محمود درويش دمشق، زيارة يمكن أن يُقال عنها بأنها زيارة خاصة عام 1994، وكنت شخصيًّا من المعنيين بترتيب لقاءاته، التي كان لها طابع خاص. وفي تلك اللقاءات زار محمود درويش بعض القيادات الفلسطينية، والتقى معها في حوارات مطولة في تلك المرحلة الساخنة من عمر القضية الوطنية للشعب الفلسطينية، حيث توقيع اتفاق أوسلو الأول، وبدايات نشوء السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة.
فقد عارض محمود درويش اتفاق أوسلو الأول الموقع في حديقة البيت الأبيض في 13/9/ 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل”، لكنه بقي معارضًا من داخل البيت الفلسطيني بالرغم من مغادرته واستقالته الاحتجاجية من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وهي أعلى هيئة سياسية مسؤولة عن الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، وبقي كذلك على علاقة حميمية مع الرئيس الراحل ياسر عرفات بالرغم من التباين السياسي معه بشأن اتفاق أوسلو واستتباعاته.
في تلك الزيارة الدمشقية لمحمود درويش، ولقاءاتها، كانت هناك جولة خاصة في مخيم اليرموك للشاعر محمود درويش، جولة عادية لمواطن فلسطيني، أراد أن يرى من خلالها حياة الناس في مخيم اليرموك مباشرة دون ضجيج، ودون قاعات، ودون هتافات، ودون مهرجان، ودون برتوكول وترتيبات معينة، ودون أن يعلم بها أحد لا من قادة العمل السياسي الفلسطيني باليرموك، ولا من عامة الناس. فكانت زيارته عفوية، وصباحية في شوارع مخيم اليرموك المزدحمة ونحن نتنقل بسيارة أجرة عادية كما أراد شخصيًّا.
دارت بنا السيارة (التاكسي) في كل شوارع وأزقة مخيم اليرموك، من شوارع اليرموك وحاراته المختلفة وصولًا لكل تفرعاتها، ومنها نزلنا لفترة قصيرة لمثوى شهداء فلسطين، ففوجئ بنا حراس المقبرة من المفرزة العسكرية التابعة لجيش التحرير الفلسطيني. فاستقبلونا أجمل استقبال ودون ضجيج كما طلبنا منهم، وزرنا نصب الجندي المجهول وأضرحة الشهداء، ومنها أضرحة الشهداء من قادة الكفاح الوطني الفلسطيني المعاصر، كالشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) والشهيد سعد صايل، والشهيد زهير محسن، والشهيد طلعت يعقوب … وغيرهم.
في تلك الزيارة المُتنقلة لمخيم اليرموك، كان الشاعر محمود درويش يسأل عن كل ما يشاهده في شوارع مخيم اليرموك وأزقته، ويطرح أسئلته بطريقة ودية، وجميلة، وفيها من الطرافة والابتسامة، مُترجمًا مشاعره وأسئلته بكلام جميل هو أقرب للنثر الشعري. فعندما كان يشاهد فتاة جميلة مارة بالشارع (ونحن بالسيارة) يبادرني للسؤال عنها بطريقة غير مسبوقة في طرح السؤال، وبإيماءات وحركات اليد: هل تتوقع من أي بلد في فلسطين هذه الفتاة الجميلة … وهكذا.
محمود درويش، قامة فلسطينية وعربية، اختلفنا معه سياسيًّا أم اتفقنا، اختلفنا معه آيديولوجيًّا أو اتفقنا. فمحمود درويش يبقى كما كان متراسًا وطنيًّا في ثقافة الوجود الفلسطيني والعربي على الأرض العربية الفلسطينية. ومتراسًا قويًّا في تكريس الثقافة الوطنية.

صحيفة الوطن العمانية

الخميس 21/8/2014