المسجد الاقصى.. حفريات متواصلة وقوانين مجمدة

بقلم: حنا عيسى

تمارس سلطات الاحتلال الاسرائيلي سياسة احتلالية مدروسة ضد مدينة القدس المحتلة عامة والمسجد الاقصى المبارك خاصة،  وتعتبر الحفريات المتواصلة اسفل البلدة القديمة من المدينة المحتلة واساسات المسجد المبارك وما يرافقها من عمليات سرقة للتاريخ وتزوير للآثار تضع من خلالها سلطات الاحتلال يدها على العديد من المعالم والاثار لتنسبها للتاريخ اليهودي في المدينة لتثبيت احقيتهم فيها.

واصلت سلطات الاحتلال حفرياتها الضخمة في موقع مدخل حي وادي حلوة، على بعد 100 متر جنوب المسجد الأقصى المبارك، على نحو ستة دونمات، وعمق نحو 20 متراً. غير آبهةً برفض المجتمع الدولي لمثل هذه الاجراءات وتناقضها مع القانون الدولي، حيث تنطبق على المسجد الأقصى أحكام اتفاق لاهاي لعام 1899، و1907، كما تنطبق عليه أحكام اتفاق جنيف الرابع 1949، والبروتوكولات التابعة له، بصفته جزءاً من القدس الشرقية التي احتلتها إسرائيل عام 1967، إضافةً إلى انطباق معاهدة لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة لعام 1954 عليه. فقد نصت المادة 27 (4) من الملحق الرابع من اتفاق لاهاي 1907، على وجوب أن تتخذ القوات العسكرية في حال حصارها «كل الوسائل لعدم المساس بالمباني المعدة للمعابد وللفنون والعلوم والأعمال الخيرية والآثار التاريخية». كما حظرت المادة 22 من الاتفاق ذاته «ارتكاب أية أعمال عدائية موجهة ضد الآثار التاريخية، أو الأعمال الفنية وأماكن العبادة التي تشكل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب». ونصت المادة 56 من اتفاق لاهاي 1954 على تحريم «حجز أو تخريب المنشآت المخصصة للعبادة... والمباني التاريخية». كما نصت المادة 53 من البروتوكول الإضافي الأول والمادة 16 من البروتوكول الإضافي الثاني، لاتفاقية جنيف الرابعة 1949، على «حظر ارتكاب أي أعمال عدائية موجهة ضد الآثار التاريخية أو الأعمال الفنية وأماكن العبادة التي تشكل التراث الثقافي والروحي للشعب».

وتفنيداً للادعاءات الاسرائيلية القائمة على ان المسجد الاقصى قائم فوق هيكلهم المزعوم، نذكر هنا أن المسجد الأقصى المبارك جاء تتويجاً لواقعة الاسراء والمعراج وسجل ضمن الوقائع المثبتة انه وحدة معمارية متكاملة يعود تاريخها للفترات الاسلامية المتقدمة، وبالتدقيق في موقعه المنحدر والحلول التي قدمت لتصميمه نلاحظ كيفية تعامل مصمميه مع الموقع المنحدر، فقد قرر بناء أساسات المبنى بالمقاطع الصخرية المنحدرة، ما ينفي قيامه على اي مبنى سابق، ولحل مشكلة ربط البناء الرئيسي بالساحة، تم رفع المبنى وساحات المرافقة فوق تسوية وهي ما يعرف اليوم بالمصلى المرواني، والجدير بالذكر ان المسجد الأقصى مر بتغيرات كثيرة جدا وجذرية وذلك بسبب الزلازل المتلاحقة التي ضربت القدس وادت الى تدميره جزئياً او معظم اجزاءه أربع مرات، إن هذه الدلائل التي قدمها علماء الآثار على مر العصور تنفي الرواية الاسرائيلية التي يزعمون بها وجود هيكل سليمان أسفله.

والخطير في الفكر الاسرائيلي هو اختيارهم للعمق الذي تتقاطع خطوطه مع العديد من المنشآت القائمة الان أهمها المسجد الأقصى مما يعرضها جميعا لخطر الزوال، الأمر الذي ينذر بحلول صراع شامل وقد يكون دموي في مرحلة من المراحل لما للمسجد الأقصى بشكل خاص مكانة في نفوس الامتين الاسلامية والعربية - والأخطر من ذلك - أن الدولة الاسرائيلية لا تتعامل مع البلدة القديمة كتراث عالمي كما هو، بل تحاول العودة بالزمن لرد الطابع الذين يدعون أنه كان سائداً قبل ثلاثة الآف عام،  فنجدهم لا يولون أية اهمية لأية آثار لا تمت لهم بصلة وتثبت زيف ادعاءاتهم عن طريق التدمير أو الاهمال.

والصورة التي يحاول الاسرائليون فرضها على البلدة القديمة وهي كما يتخيلونها مدينة ذات طابع اسرائيلي بدون وجود اي طبقات حضارية اخرى ويعملون على كافة النواحي السياسية والاثرية والتخطيطية والقانونية لتنفيذ النموذج الذي يتخيلونه:

1- الهيكل مكان المسجد الاقصى.

2- قدس الاقداس مكان قبة الصخرة.

3- نجد المعابد اليهودية ونرى حول المدينة القديمة او ما يسمونه الحوض المقدس حاليا خاليا من المباني.

والقدس القديمة مسجلة رسمياً ضمن لائحة التراث العالمي المهدد بالخطر لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو). وشجبت المنظمة، في أكثر من مرة الاعتداءات التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد الأماكن التاريخية والمقدسة في القدس، كما سبق أن أدانت الحفريات وأعمال التنقيب التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في محيط المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، ودعت جميع قراراتها - والتي كان آخرها تقرير بعثة اليونسكو التي زارت القدس العام الماضي - دعت جميعها إسرائيل إلى التوقف الفوري عن هذه الحفريات لمخالفتها القوانين الدولية، بما في ذلك الاتفاق الدولي الخاص بحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام 1972.

ليس ذلك فحسب، بل إن مجلس الأمن ذاته أصدر قرارات عدة، تؤكد إدانة وإبطال جميع ما قامت به إسرائيل من أعمال التهويد في القدس، بما في ذلك إبطال جميع الإجراءات التشريعية والإدارية والديموغرافية التي اتخذتها حكومة إسرائيل، وتؤكد عدم شرعية الاحتلال، فضلاً عن مطالبتها إسرائيل بالجلاء عن القدس، كونها جزءاً من الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967. فإضافة إلى قراري مجلس الأمن الشهيرين 242 (1967) و338 (1973) اللذين يضعان الأساس القانوني في تحديد أن إسرائيل قوة محتلة لقطاع غزة والضفة الغربية بما في ذلك القدس ويطالبانها بالانسحاب، أصدر مجلس الأمن عدداً من القرارات التي تؤكد وجوب احترام القدس من جانب قوات الاحتلال. منها على سبيل المثال، لا الحصر:

252 (1968) و267 (1969) و271 (1969) و453 (1979) و465 (1980) و476 (1980) و478 (1980) و1073 (1996)، وكلها تؤكد أن مدينة القدس جزء لا يتجزأ من الأراضي المحتلة عام 1967، وينطبق عليها ما ينطبق على بقية الأراضي الفلسطينية من عدم جواز القيام بأي إجراء يكون من شأنه تغيير الوضع الجغرافي أو الديموغرافي أو القانوني لمدينة القدس المحتلة.

إضافة إلى ذلك، بموجب معاهدة السلام الأردنية - المعروفة بـ «معاهدة وادي عربة» - ظل المسجد الأقصى تحت رعاية الحكومة الأردنية بصفتها الوصية على شرق القدس وخدمة المسجد الأقصى والأوقاف الإسلامية فيها. وتبعاً لذلك، فإنه ليس من حق السلطات الإسرائيلية تغيير أو تبديل أو ترميم أي جزء من المسجد الأقصى، الذي قامت السلطات الإسرائيلية بتحويل جزء منه إلى كنيس، وما زالت تواصل الحفريات بهدف إسقاط بنائه بالكامل، الأمر الذي يعد «جريمة حرب»، بموجب قواعد القانون الدولي. فقد نصت المادة 6 فقرة ب، من ميثاق محكمة نورمبرغ على أن «الاعتداءات على الآثار والمباني التاريخية من دون سبب تعد جريمة حرب». كما أن معاهدة لاهاي 1954، تلزم أي دولة احتلال بالحفاظ على الممتلكات الثقافية والدينية، وتعد الاعتداء عليها «جريمة حرب» أيضاً.

ولعل السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: إذا كانت كل هذه النصوص القانونية الدولية تعضد الموقف العربي والإسلامي ضد الانتهاكات السافرة والصارخة للاحتلال الإسرائيلي، فلماذا لا يرى للأمة العربية أو الإسلامية أي حراك قانوني دولي، سواء عبر المنظمات الدولية أو القضائية أو حتى السياسية؟!

بإمكان هذه الدول العربية والإسلامية أن تطالب مجلس الأمن استناداً إلى قراراته السابقة بمنع إسرائيل من مواصلة اعتداءاتها المتواصلة على المقدسات الإسلامية، كما لهذه الدول أن تحرك الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ هي تملك الغالبية فيها، ولها عبر الدول التي نقضت إسرائيل معاهداتها الدولية معها أن ترفع قضية في محكمة العدل الدولية، كون الاعتداءات الإسرائيلية على المقدسات تمثل خرقاً لـ «معاهدة وادي عربة»، وكون الاعتدءات الإسرائيلية تمثل انتهاكات صارخة للقانون الدولي من شأنه تعريض السلم والأمن الدوليين للخطر. إذ الواضح اليوم أنه ما لم تقم الدول العربية والإسلامية بواجبها في الدفاع عن مقدساتها، فقد يأتي الوقت الذي تكون فيه المطالبة متأخرة جداً! وللحق، فإن على منظمة المؤتمر الإسلامي عبئاً ثقيلاً يجب ألا تتخلى عنه. فمنظمة المؤتمر الإسلامي التي قامت في الأصل لحماية المسجد الأقصى من العبث اليهودي بعد محاولة حرقه في عام 1969، والتي تضم أكثر من 50 دولة في عضويتها، تستطيع بما أوتيت من قوة، أن تجيش المنظمات الدولية بما في ذلك منظمة الأمم المتحدة، وتحرك العالم الغربي لحماية أعز ما تبقى من مقدساتها الإسلامية في القدس، قبل فقده.