في ظل تواتر الأنباء عن تعثر مفاوضات القاهرة لإبرام إتفاقية لتحقيق تهدئة دائمة في قطاع غزة ولوقف العدوان الصهيوني الغاشم عليها، وإزاء ما أكدته صحيفة معاريف مساء أول أمس من أن النتن ياهو قرر نهائيا رفض الوثيقة المصرية التي تمَّ عرضها يوم الخميس الماضي على طرفي التفاوض المجتمعين في القاهرة، فإنني أقول موقنا واثقا بأن ذاك كان أمراً متوقعاً وغير مستبعد، فحكومة النتن ياهو لا ولن تمنح المقاومة الفلسطينية الشريفة صكا على بياض يُجير لصالح نهجها على أنه الخيار المشرف الوحيد لأبناء فلسطين من أجل استرداد حقوقهم السليبة، ففي ذاك لعمري مقتل لأحلامها التوسعية وإجهاض لمخططاتها المرسومة والتي تسعى جاهدة منذ عقود من أجل استكمال تنفيذها!!.
إن عدوان الكيان الصهيوني على غزة وبهذه الصورة البشعة واللاإنسانية وحصاره البغيض المستمر عليها لم يكن أمراً جديداً ولا حدثاً طارئاً مفاجئاً لنا، بل جاء العدوان الوحشي الأخير ليكون دليلاً جديدا وكشفاً إضافياً وتعرية دامغة لهذا الكيان الساديّ المجرم وبرهاناً على أنه كان ومازال وسيظل إلى ما شاء الله تعالى دولة مارقة فاسقة لا تحترم القانون الدولي ولا تقيم وزناً للأعراف الإنسانية، وذاك لعمري أمر خبرناه وعرفناه ولا نستغربه، غير أن الأنكى والأغرب من كل ذاك ما نتلمسه من حالة العجز (المستمر) والشلل (الدائم) الذي يعتري أنظمتنا العربية والإسلامية والمتمثل بوقوفها مكتوفة الأيدي فاغرة أفواهها بحق أشقائهم وأبناء جلدتهم وعقيدتهم في غزة الصمود والصبر وكأن الوعي قد ارتحل عنها وفارقها، ولا غرو لو عُدّ سكوت وصمت أنظمتنا العربية والإسلامية المهين والمخزي هذا مساهمة فاعلة منها بشكل أو بآخر باستمرار فرض الحصار وما يعنيه من جوع وحرمان وقتل لأبناء غزة!!.
لقد شن الكيان الصهيوني ومنذ بداية تأسيسه حربا شعواء على الشعب الفلسطيني، وعلى كل الجبهات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، داخل فلسطين وخارجها، وما انخراطه بما يسمى بـ"عملية التسوية السلمية" بدءً من محطة أوسلو إلا تكتيكا ماكرا منه ودهاءً سياسيا يصب في صالح حربه تلك، حيث سعى طيلة عقدين ونيف لتحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية للتغطية على طبيعته الاستيطانية والاستعمارية، ولا نجافي الحقيقة لو قلنا بأن محطة أوسلو تلك ما كانت لتحدث لولا مخطط صهيوني محكم كان الهدف منه إركاع شعب فلسطين، وتخدير أعصابه وإطفاء جذوة ثورته ومقاومته، وبالتالي إطلاق يد حكومات الاحتلال الصهيوني لتنفيذ مخططاتها بضم ما تبقى من مدن الضفة وقراها بعد تقطيع أوصالها، وتهويد مقدساتنا، ليتم فرض سياسة الأمر الواقع، لاسيما إذا ما تذكرنا ما تعلنه وسائل إعلامه عن (أحقيته التاريخية !!) بمدن الضفة وقراها تحت مسمى (يهودا والسامرة)!!.
دعوني أتساءل وقد يستغرب البعض من تساؤلي هذا: هل يُحـْـلـَــبُ الثور!؟، والجواب سيكون نفيا ولا ريب!!، فذاك أمر لن يكون حتى في أفلام الخيال العلمي الأمريكي المُصَنّعة في ستوديوهات (هولي وود) الشهيرة، وما نفينا ورفضنا القاطع هذا إلا استنادا لحقيقة يعلمها الجميع، فلا ضرع للثور كي يحلب، وما تساؤلي الغريب آنف الذكر إلا توطئة مني لحقيقة مفادها ظن "بعض قادة وساسة" دول الانبطاح والاعتدال العربي أن بإمكانهم حلب ثور المفاوضات ومن ثم الخروج بتسوية سياسية مع العدو الصهيوني الغاصب، ظناً وأملا منهم أن الغيث قادم، فإذا ببارقة التسوية تمطر على شعبنا الفلسطيني الجريح والمحاصر مزيداً من المعاناة والآلام والويلات، متناسين حقيقة أن الاستيطان بحد ذاته يمثل جوهر الصراع العربي الإسرائيلي وهو تجسيد لفكر العدو الايدولوجي والاستراتيجي الذي لايحيد عنه قيد أنملة إلا بالطرق والضرب والصمود وتكاتف الجهود، فكان أن جرى ما جرى وجُرّت الأرجل بدهاء ومكر تماما كما حذرت منه العرب قديما: "إجلس حيث يُؤْخَذُ بيدك وَتُبَرُّ ولا تجلس حيث يؤخذ برجلك فتُجَرُّ"!!.
لقد تناسى هؤلاء من أشباه الرجال تلك العنجهية والغطرسة التي تلبست قادة العدو واستخفافهم بنا نحن العرب والمسلمين، وما قناعتي تلك إلا استنادا لجملة حقائق موضوعية وشواهد تاريخية لممارسات وأفعال وأقوال تراوحت بين الكذب والمكر والخداع والتسويف والمراوغة ونقض العهود والمواثيق ولا نجد بأسا لو كررناها على مسامعكم الكريمة تذكيرا، "وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ":
أولاً... حقائق وشواهد كثيرة ذكرها الله سبحانه وتعالى في محكم آياته تتحدث عن مكر وخداع وتدليس ومراوغة ونقض للعهود والمواثيق كان قد مارسها يهود عبر تاريخهم الأسود وانتقلت لخـَلـَـفهم من بعدهم فخبرناها واكتوينا بها طويلا، تماماً كما اكتوى بها أنبياء يهود، ولعل أبرزها قصة بقرتهم الصفراء فاقعة اللون التي حاوروا نبيهم موسى عليه السلام طويلا ثم ذبحوها أخيرا وما كادوا يفعلون: "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ"...(البقرة: 68،69)، وقال تعالى: "فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"...(المائدة: 13)، وقال تعالى: "لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ"...(المائدة: 70)، وقال تعالى في محكم آياته: "أفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"...( البقرة: 75)، وقال تعالى في محكم آياته: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ"...(البقرة: 120)، وقال تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ"... (آل عمران:187).
ثانيا... أهداف ومخططات وأحلام توسعية أعلنها قادة وساسة الكيان الصهيوني وأفصحوا عنها عبر مؤتمراتهم ومقابلاتهم الإعلامية بمنتهى الوضوح والجرأة منذ منتصف القرن المنصرم حتى يومنا هذا، وذاكرة قادة وأولي الشأن العربي تنسى أو تتناسى وتتغافل عنها لسبب أو لآخر، فها هو بن غوريون في مؤلفه "بعث إسرائيل" يعلن صراحة وبمنتهى الوضوح وأقتبس: "ليست المسألة احتفاظنا بالوضع الراهن .. إنما علينا أن نقيم دولة غير متجمدة .. دولة ديناميكية تتجه نحو التوسع"، وهذا رد بنيامين نتنياهو الصريح والواضح في نوفمبر عام 1996 عند اجتماعه بالسفراء المعتمدين لدى اسرائيل وأقتبس نصا: "انني ضد السيادة الفلسطينية وضد حق تقرير المصير لأن تلك السيادة وذلك الحق يعني إقامة دولة فلسطينية مستقلة ... نحن نسمح للفلسطينيين بإدارة شؤونهم الداخلية على أن تبقى اسرائيل وحدها الجهة المعنية بالأمن"!!، وقال مناحيم بيغين - صاحب معاهدة ما يسمى بـ"السلام!!" مع مصر - وأقتبس: "لن يكون سلام لشعب إسرائيل، ولا في أرض إسرائيل، ولن يكون هناك سلام للعرب- أيضا- ما دمنا لم نحرر وطننا بأكمله (من النيل إلى الفرات)، حتى ولو وقعـّنا مع العرب معاهدة الصلح"!!، وهاهو موشي دايان وزير الدفاع الصهيوني يعلنها بوضوح شديد عند زيارته جنوب طابا: "ألآن أصبح الطريق مفتوحا أمامنا إلى المدينة ومكة"، كما وقال يوم دخوله مدينة القدس في 7/6/1967:"لقد وصلنا أورشليم وما زال أمامنا يثرب وأملاك قومنا فيها"!!.
معزوفة شوهاء لاسطوانة مشروخة طالما سمعناها من أفواه بعض قادة وأولي الأمر العربي عن اختلال ميزان القوى بيننا نحن العربَ وبين الكيان الصهيوني المسنود غربيا، ولا غبار على ذلك، لكنهم تناسوا أنهم هم أنفسهم ومَن سبقهم كان مَن صنع هذا الاختلال بميزان القوى، وأن نجاح الكيان الصهيوني بالهيمنة الكاملة على القرار الغربي عموما والولايات المتحدة الأمريكية خاصة ما كان ليتحقق لولا تخطيط صهيوني محكم وإرادة قادتهم وإيثارهم مصلحة كيانهم العليا على مصالحهم الشخصية، في ظل غياب إرادة عربية حقيقية وتخطيط استراتيجي بعيد الأمد يضع قدرات هذه الأمة وما تمتلكه من وسائل ضغط مهولة تتمثل بثروات ورؤوس أموال صارت حبيسة المصارف الغربية لخدمة قضايانا القومية والمصيرية!!.
إن حالة الغطرسة والفرعنة والهيمنة الصهيونية تلك لم تأت من فراغ، بل هي تحصيل حاصل وانعكاس طبيعي لجملة أسباب أهمها هواننا وتخاذلنا وانقسامنا العربي المعروف، يضاف لها غياب تخطيط استراتيجي عربي إسلامي يتصدى للمشروع الصهيوني الخبيث بعيد المدى، وثالثة الأثافي يتمثل بتآمر حكام العرب على قضايا العرب والمسلمين المصيرية وعلى رأسها قضية فلسطين !!، فـ"إسرائيل" لم تكن يوماً، ولن تكون مستقبلاً معنية لا من قريب ولا من بعيد بسلام حقيقي بينها وبين أبناء المنطقة، لأنها - ومنذ تاسيسها بقرار أممي باطل- صاحبة التخطيط السليم وحسن التنفيذ مما أهلها لفرض سياستها ومشيئتها على من جاورها وبشكل تقول فيه للملأ أني ها هنا أفعل ما أشاء ووقتما أشاء وما أنتم إلاّ لُعَبٌ أحركها متى ما أشاء وكيفما أشاء!!.
ختاما ...
تحية إكبار وإعزاز لرجال المقاومة في غزة الصمود والرباط ومن مختلف الفصائل الذين سطروا هم وأبناء غزة أروع ملاحم الصمود والفداء والتضحية، فلم ترعبهم وحشية العدو فعاهدوا الله ورسوله على نيل إحدى الحسنين، إما الشهادة أو النصر المؤزر، من الذين قيل بحقهم:"الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"... (آل عمران: 173).
العار والشنار لكل من استهان بصمود أبناء غزة، وخيار المقاومة المشرف، أولئك الذين ابتليت أمتنا بهم وبعجزهم وصمتهم وخذلانهم ممن يرون إمكانية (حلب الثور!!)، فحق عليهم ما جاء في محكم آياته: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ"...(الحج:46)، "أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"... (محمد: 23-24).