ان صمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزة سجل أروع الملاحم البطولية في سفر النضال الفلسطيني والعربي المتواصل منذ ست وستون عاما في مواجهة العدو الصهيوني النازي، واكد هذا الصمود الشعبي الفلسطيني والالتفاف حول خيار المقاومة والوحدة والذي تجلى بآبهى صوره من خلال الهبة الشعبية في الضفة الفلسطينية والقدس وفلسطين المحتلة عام 1948 واماكن اللجوء والشتات على اهمية استنهاض الحالة الدولية والعربية الثورية وكبح جماح المتوسلين والمتسولين على أعتاب واشنطن والدول الغربية, والذين تسببوا لاحقا بالهزيمة النفسية والمعنوية للحالة العربية برمتها وخصوصا بعد احتلال العراق الشقيق وانكفاء قوته وقدراته المخزون الاستراتيجي للأمن القومي العربي, ومحاولات ضرب قوى المقاومة في المنطقة المتمثلة بسوريا وايران والمقاومة في لبنان .
إن ما تعرض له الشعب الفلسطيني من عدوان اجرامي ومحرقة نازيه من قبل الكيان العنصري ، لم يكن بمعزل عن ما يجري في المنطقة العربية بشكل عام، ما جرى يشير إلى أن هنالك مؤامرة تفوق في أبعادها وخطورتها واقع العدوان الأجرامي التدميري على قطاع غزة، في محاولة لكسر ارادة الشعب الفلسطيني ونزع سلاح المقاومه في غزة ، وهي أهداف معروفة ومعلنة، أما الأهداف الخفية فقد تكون أكثر خطورة من فعل التدمير والقتل لان كان يعتقد الامريكي والاسرائيلي والقوى المتحالفه معهم بانها ستؤدي في النهاية إلى حسم الأمور لصالح العدو وبرعاية انظمة عربية للوصول الى المخطط المرسوم تحت ما يسمى الشرق الاوسط الجديد لتكتمل حلقاته تدريجياً بهدف إعادة رسم خارطة المنطقة بما يتناسب والرؤيا الأمريكية –الإسرائيلية ، وتفتيت العالم العربي وتحويله إلى إمارات طائفية ومذهبية وعرقية , وإفراغ العالم العربي من مواطنيه المسيحيين وهم مكون أصلي في المنطقة ورئة ثقافية وحضارية طالما تنفس العالم العربي من خلالها واكتسب صفتي التسامح الديني والمواطنة اللتين تعلوان على أي صفة أو هوية أخرى.
لقد خسر المشروع الامريكي الاسرائيلي معركة الرأي العام العالمي وانتصر الضمير العالمي للشعب الفلسطيني وأدان معاناتهم، في حين انهزم الضمير العربي أمام معاناة الفلسطينيين. معادلة محزنة تدمي القلب لما آل إليه الوضع العربي . ومع ذلك فهناك ما يبعث على الأمل المتجدد، من خلال استرداد حركة الرفض والاحتجاج الشعبي العربي بعضا من وعيها وعافيتها، وان كان ذلك ببطء ملحوظ خصوصاً بعد أن عاشت الشعوب العربية وقواها الوطنية والتقدمية والقومية وحشية ودموية العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة والضفة الفلسطينية وما رافقها من ضعف وغياب رد الفعل الرسمي العربي وصمود الشعب الفلسطيني وبسالة المقاومة.
وامام هذا الانتصار العظيم للشعب الفلسطينيى والهبة العالمية لشعوب دول أمريكية لاتينية التي انحازت لفلسطين، وشعبها المناضل، والتي كان لها الاثر الايجابي في تحريك شعوب دول العالم من خلال المسيرات الحاشدة في اطلاق الصرخة الواضحة بمواجهة العدوان الاجرامي الصهيوني وبمواجهة الصمت العربي والدولي المريب ، هذه الصرخة الواضحة اكدت ان كل محبي الحرية والسلام يقفون الى جانب الشعب الفلسطيني الذي من حقه ان ينعم بالامن والحرية والاستقرار واقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس مثله مثل بقية شعوب العالم .
نعم نقول ذلك اليوم لان المعركة لم تنتهي عند اتفاق تهدئة ، وهذا يتطلب استنهاض كل الطاقات ، بعد ان كتب شعب فلسطين بدمه وعذاباته وجرحاه وشهدائه مسيرة النضال من جديد، بعد ان رويت الأرض دماً أحمراً قاني، نتيجة جرائم المحرقة الصهيونية، وهذا هو طبع الارهاب الامبريالي الصهيوني في كل تاريخ نضال حركة التحرر الوطني لشعوب العالم ، مما يستدعي ادارة المعركة السياسية وتجييرها رصيدا للشعب الفلسطيني في المرحلة القادمة في مواجهة العدوان ، فالوفد الفلسطيني يتفاوض باسم كل فلسطين ، ويقدم نموذجا لوحدة الإرادة الفلسطينية أمام العالم وإسرائيل ، حيث كانت الأخيرة تظن طول الوقت أنها لا تعرف من تفاوض ، وحين شكلت حكومة الوحدة الوطنية جن جنونها ، كما أن هناك آثار إيجابية ومؤشرات أن الأمور تسير في اتجاه خطوات أخرى متقدمة نحو الوحدة حيث يدرك الجميع المخاطر وحيث ساهمت تجربة التفاوض المشترك في صهر الجميع في روح وطنية عالية.
ان معركة فلسطين الجارية تاريخية بكل ما تعني الكلمة حيث خاضها الشعب الفلسطيني بأسره عبر مساراتها المختلفة، وحيث قاتلت فيها الفصائل الفلسطينية معا وحققت صمود أسطوري أذهل العالم، عكس فيها المعادلة المزورة والمروجة إعلاميا، واثبت فيها أن الشعب الفلسطيني هو الذي لايقهر ، وأن جيش العدو هو القابل للانكسار ، كما أنه أوصل رسالة إلى كل متابع ،أن جيش الاحتلال انهزم بالمعنى العلمي للكلمة، حيث حققت غزة نصرا إنسانيا عالميا أيضا تمثل في حملة التضامن الواسعة للشعوب الغربية ودول أمريكا اللاتينية وبعض الدول الأوربية كالسويد والدانمرك، والكل تابع كيف أجهش المتحدث باسم الأنروا بالبكاء على الهواء مباشرة في حوار مع الجزيرة من هول صدمة ما رآه من قتل متعمد للأطفال.
ما يجري في غزة والضفة والوتيرة المتسارعة للعدوان يشير لمرحلة جديدة من المواجهة مع إسرائيل تتطلب أن يتعالى الجميع عن الخلافات ، واقتناص هذه اللحظة التاريخية بما يخدم المصلحة الوطنية المشتركة، و توظيف الحالة الشعبية غير المسبوقة في تصديها ورفضها للاحتلال ، واعادة ترتيب الوضع الفلسطيني الداخلي من جديد، من خلال تغير قواعد التعامل مع القوى السياسية الفلسطينية ، وان نقراء جيدا حالة التأييد والتعاطف الشعبي مع ما يجري في قطاع غزة ، فموقف الجماهير يعبرعن تعاطف مع معاناة الشعب ورفض الاحتلال وممارساته ،لان انتصار غزة ليس مجرد انتصار تاريخي بل هو انتصار أسطوري بالمعيار العلمي والموضوعي تحقق بدماء الشهداء وبحالة الصمود التي جسدها في الميدان، وهذا النصر يستحضر تجربة تدمير الضاحية الجنوبية في لبنان، ومدينة لينغراد كعناوين للانتصار والصمود أمام الاستعمار، ويؤكد أن لا مستقبل لهذا الاحتلال المجرم، بل لابناء واجيال فلسطين الذين سيحتفلون بالنصر وبكنس هذا الاحتلال.
لذا وليكن معلوما أن فلسطين لن تغادر إلى أي مكان والمرشح الأكيد للمغادرة هو كيان الاحتلال لأنه وببساطة قادر على المغادرة ، بغض النظر عن الطريقة أو الآلية والفارق هو الزمن وتقليصه أو تطويله فبيت العنكبوت آيل للسقوط بمجرد وعي الزمان وأدواته.
ختاما : هذه هي قراءتنا لمغزى الانتصار الكبير الذي حققه الشعب الفلسطيني على العدوان الإسرائيلي والمطلوب خلال هذه المرحلة والمرحلة القادمة تعزيز وحدة الموقف الفلسطيني وتوحيد الرؤى والمواقف ورفع درجة الاستعداد والتحسب لمواجهة كل الاحتمالات التي يمكن أن يقوم بها العدو الإسرائيلي لان هذا العدو بات يدرك جيدا حقيقة انتصار غزة بكل أبعاده التاريخية والفكرية والاستراتيجية، مما سيجعله يواصل نهجه العدواني العنصري الذي اعتمده منذ اغتصاب فلسطين.