يعترف قادة العدو الإسرائيلي أن الحرب على غزة، وما أطلقوا عليه بـ "عملية الصخرة الصلبة"، كانت من أقسى حروب إسرائيل، وهي الدولة الأكثر تسلحاً في العالم، لكن للقوة العسكرية حدود، فلم تستطع القنابل الذكية، وسلاح الجو الإسرائيلي الفتاك، والغواصات المتطورة، والمتفجرات والصواريخ وسلاح المدفعية بكافة أصنافها، لم تستطع حسم الحرب، فقد تلقى الردع الإسرائيلي ضربة قاسية، وفشل الجيش الإسرائيلي في ردع المقاومة وصواريخها، التي أسرت نصف سكان إسرائيل وألزمتهم اللجوء إلى الملاجئ، فالأجواء والرأي العام الإسرائيلي يشعرون بخيبة الأمل والفشل، حتى أن رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق الجنرال "غيورا آيلاند"، قال من خلال القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي "20-8-2014"، أن على إسرائيل الاعتراف أنها لم تنتصر في حربها مع حماس، مطالباً بتقييم أسباب الفشل لمعرفة أين الخطأ، وما هي البدائل، واعترف ضابط كبير في سلاح الجو- "هآرتس 25-8-2014"- بعدم وجود قدرة على وقف صواريخ المقاومة بشكل مطلق، لا من الجو ولا من خلال عمليات عسكرية برية، وقال رئيس الموساد السابق "شبتاي شافيت"، بأن حماس لن تستسلم، ولن ترفع الراية البيضاء، وأن عمليات الجيش الإسرائيلي لم ولن تحقق أهدافها، فإسرائيل وقعت في حالة إرباك وإحباط غير مسبوقة، حتى أن وزير الحرب السابق "موشيه آرنس"، اعتبر أن الخيار الوحيد أمام إسرائيل للخروج من هذا المأزق هو الاستجابة لمطالب المقاومة- "هآرتس 25-8-2014"- وفي تعليق للمراسل العسكري لجريدة "يديعوت احرونوت 24-8-2014"، "بن يشاي"، فإن ما فعلته فصائل المقاومة في إسرائيل، في هذه الحرب، لم تفعله ثلاثة جيوش عربية خلال حروبها مع إسرائيل، باستنزافها للجيش الإسرائيلي والإسرائيليين عامة، وهذا بحاجة لدراسات عسكرية وسياسية جديدة، لإعادة النظر في سياسة الأمن القومي الإسرائيلي، ففي إسرائيل أخذوا يتساءلون عن كيفية الخروج من غزة، وينتظرون اتفاق الهدنة، وحسب "معاريف 27-8-2014"، فإن إسرائيل هي التي كانت تهرول لاتفاق وقف إطلاق النار وليس حماس، قائلين أنه ليس من أجل هذا قضينا (50) يوماً في الملاجئ.
إن النقاش الدائر في إسرائيل، إلى أين وجهة نظر الحكومة؟ فـ "نتنياهو" ووزير حربه "يعالون"، ورئيس أركان الجيش "غينتس"، يريدون إخضاع حماس، والحصول على هدوء لفترة طويلة، بينما يريد وزير الخارجية "ليبرمان" من حماس رفع العلم الأبيض، حتى أن "نتنياهو"، ومن أجل الخروج من مأزقه، فاجأ الجميع حين قال أنه يريد اتفاقاً سياسياً، بينما المحلل في الإذاعة الإسرائيلية "تشيكو منشه"، رأى أن هناك خياراً حقيقياً، لإنهاء الحرب، بالقبول بمسارين سياسيين الأول: مسار الأمم المتحدة الذي يتبنى الوثيقة الأميركية للتوصل إلى هدنة، والثاني بالاستجابة إلى جزء من مطالب حماس، التي تلتقي مع المبادرة المصرية.
"نتنياهو" محبط، وأصيب بمرض الكآبة، لكنه يكابر وما حديثه عن أفق سياسي جديد، لم يكشف عن تفاصيله، إلا محاولة يائسة لبث الأمل في نفوس الإسرائيليين الذين يريدون نهاية للمعارك، و"نتنياهو" طالب الإسرائيليين بالمزيد من الصبر والتحمل والنفس الطويل، لكنه يخشى من حرب استنزاف، وخياراته محدودة: العودة إلى مفاوضات القاهرة، أو الذهاب للأمم المتحدة وإعلان وقف النار بقرار يلزم جميع الأطراف، واستدعاء وزير الخارجية الأميركي" جون كيري" للتدخل بين الأطراف، فإطالة الحرب ، وعدم تحقيق الأمن لسكان الجنوب، الذين أخذوا يتسارعون في النزوح إلى مناطق أكثر أمناً، ويعربون عن عدم ثقتهم بوعود "نتنياهو"، والإحباط والخلافات التي ظهرت بين الوزراء، والتسريبات من اجتماعات المجلس التي اعتبرها "نتنياهو" تضر في الجهود المبذولة، لقد تبخرت وعود "نتنياهو" لمستوطني الجنوب، بإعادة الهدوء والنوم الهادئ لهم، إلا أن ذلك بعيد المنال، فهروب سكان الجنوب وبقاء بلداتهم شبه أشباح، اعتبر حتى في إسرائيل أكبر مؤشر على انتصار المقاومة.
جاء في تقرير إسرائيلي، "هآرتس 25-8-2014": أن الأقوال أننا هجمنا وقصفنا واعترضنا وأحبطنا لم تقنع الجمهور الإسرائيلي، إذ أن المقاومة الفلسطينية ظلت تتحكم في قواعد اللعبة، وبحياة الإسرائيليين، وهذا يفسر حالة الإحباط التي سادت في قيادة وجنود الجيش، والجمهور الإسرائيلي على حد سواء، فقد كانت المعادلة من قبل القيادة الإسرائيلية بالتوصل إلى تهدئة، دون تحقيق مكاسب للفلسطينيين، والفلسطينيون أيضاً يريدون تحقيق التهدئة دون أن تحقق إسرائيل أهدافها، مما زاد الغليان في صفوف الإسرائيليين، الذين لا يرون نهاية لهذه الحرب، بينما صواريخ المقاومة، وخاصة قذائف الهاون، مستمرة وتزيد من الإرباك والإحباط الإسرائيلي، الأمر الذي أحدث شرخاً في القيادة الإسرائيلية، كذلك بين الجمهور والأحزاب الإسرائيلية.
"نتنياهو" أنهى الحرب لوحده، ومن فوق رؤوس الوزراء، إذ أن نصفهم عارضوا اتفاق التهدئة، والوزراء يتهمون "نتنياهو"، بأنه خطف قرار وقف النار، دون طرحه للتصويت، ويقولون أنه كان يتطلب من "نتنياهو" بعد (50) يوماً من الحرب الفاشلة، الذهاب إلى رئيس الدولة، وتقديم استقالته، إلا أنه لم يفعل ذلك، وبينما سبق أن أعلن "نتنياهو" أن الحرب لن تتوقف حتى يتم نزع سلاح غزة، لكن اتفاق التهدئة الذي قبل به "نتنياهو"، لا وجود لأي إشارة فيه لنزع سلاح غزة، ولماذا لا أحد يطالب بنزع سلاح المستوطنين المعتدين على الفلسطينيين وممتلكاتهم، فاتفاقية الهدنة هي نفس صيغة عام 2012، وكان أهم ما جاء فيها: التأكيد على توقف العمليات العسكرية، بما فيها الضربات الجوية والبرية، وعمليات الاغتيالات ضد الفلسطينيين، وتضييق المنطقة العازلة من (300) متر إلى (100) متر، لتمكين المزارعين من فلاحة أراضيهم، كذلك توسيع حدود الصيد البحري من (3) أميال إلى (6) أميال، كخطوة للوصول إلى (12) ميلا ووضع موضوع الميناء والمطار على جدول الأعمال وفتح المعابر، أما الأهداف الإسرائيلية المعلنة من العدوان، بتدمير قوة حماس وبنيتها التحتية، إضافة إلى نزع سلاحها، سقطت بالكامل، فسياسة القتل والدمار على أبراج منازل سكان القطاع، كان من أهدافه تحريض المواطنين للضغط على المقاومة لوقف القتال، لكن في المقابل كانت خسائر إسرائيل المباشرة وغير المباشرة كبيرة، ناهيك عن تضرر الاقتصاد الإسرائيلي، خاصة السياحة والصناعة والزراعة والتصدير، كما أن إسرائيل كانت تخفي الأضرار التي أصابت مدنها وقراها من ضربات الصواريخ، وفي أغلب الأحيان تدعي بأن الصواريخ سقطت في أراض غير مأهولة.
في مؤتمره الصحفي الأول بعد وقف إطلاق النار، وُصف مؤتمره بالحزين، لحرب دامت (50) يوماً، دون تحقيق أهداف الحرب، وانتقلت المعركة السياسية إلى الداخل الإسرائيلي، في وقت أظهرت استطلاعات الرأي العام، هبوط شعبية "نتنياهو" بـ 27% نقطة خلال أسابيع الحرب، وبدلاً من أن يتحدث "نتنياهو" في مؤتمره الصحفي عن انجازاته، تباهى بأن حماس تلقت ضربة قاسية غير مسبوقة منذ تأسيسها، والحقيقة أن العكس هو الصحيح، ويزعم أن إسرائيل حققت إنجازاً عسكرياً كبيراً، وإنجازاً سياسيا كبيراً لإسرائيل، وأن حماس لم تحصل على أي من الشروط التي وضعتها، لكنه لم يتطرق إلى الشروط التي وضعها هو، وماذا كانت نتائجها، لكنه واجه صعوبة كبيرة في قبولها والدفاع عن وجهة نظره، سواء أمام الصحفيين، أو أمام الجمهور.
وخلاصة القول، أنه كان للمقاومة إنجاز وصمود على الصعيد العسكري والذهني، وإدخال الملايين من الإسرائيليين إلى الملاجئ، في مواجهة الجيش الإسرائيلي الكبير، ومواصلتها إطلاق الصواريخ حتى اللحظات الأخيرة، بينما كانت تروج إسرائيل عن فراغ مستودعات المقاومة من الصواريخ، كما عطلت المقاومة مطار بن غوريون الدولي، وخطوط السكك الحديدية الجنوبية، وفقد الجمهور ثقته بالحكومة ومع ذلك رجاء التواضع في تقدير حجم الانتصار، إذ أن حجم الدمار كبير، كذلك معاناة ذوي الآلاف من الشهداء والجرحى، ومئات آلاف النازحين من بيوتهم إلى المجهول، إذ أن الانتصار الحقيقي هو بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة وعاصمتها القدس، وهذا يحتاج إلى المزيد من الوحدة الوطنية والعمل السياسي والنضالي، أما إسرائيل التي تسودها صراعات سياسية غير مسبوقة، نتيجة فشلها في هذه الحرب، قد تطيح بحكومة "نتنياهو"، وأن الاتجاه العام ما بين مضاعفة قوة اليمين والتطرف الإسرائيلي، أو جنوح الخارطة السياسية الإسرائيلية نحو السلام، وهذا الحل الوحيد لأمنها واستقرارها والله أعلم.