ما بعد غزة .. سؤال برسم الجميع

بقلم: عباس الجمعة

ما أن انتهت الحرب العدوانية على غزة بعد واحد وخمسون يوماً من القتل والتدمير والتشريد حتى عادت الخلافات الفلسطينية تبرز على السطح، ولوحظ عودة للتصريحات النارية بين السلطة الفلسطينية وحماس، رغم الآمال التي كانت معقودة بأن يوحد الدم الفلسطيني الذي روى أرض القطاع ما عجزت عنه الحوارات والاتفاقات الكثيرة التي دارت على مدار الأعوام الماضية، لكن باب الأمل مفتوحا من اجل توحيد الجبهة الداخلية، وصولا إلى التوافق الوطني على برنامج الحد الأدنى، فهل يعي الفرقاء أهمية الكف عن المناكفات والالتفات إلى الهم الوطني والتفرغ لمواجهة الاحتلال.
ان ما يهمنا في هذه اللحظات المصيرية ان يحتكم الجميع للعقل السياسي الموضوعي، مع قناعتي بأن ما تكرس من انقسامات وما تجدد من تناول اتهامات قد يؤدي إلى تكريس هذا الانقسام، وقد لا يكون في مصلحة هذا الفريق أو ذاك رغم وعيي بطبيعة المسافة بين رؤيتي المنظمة وحماس، ولكن رغم كل شيء أرى أن الحوارات السابقة شكلت مساحة للتوافق، وما تشكيل حكومة الوفاق الوطني المؤقتة الكفيلة وحدها بإعادة تنظيم أوضاعنا الداخلية باتجاه إعادة إحياء النظام السياسي الفلسطيني الذي تشتت في مراحل متعددة ، آملين أن تكون هناك بالفعل توجهات حقيقية وجدية عبر قيام الفصائل بدور مهم بالضغط لإعادة اللحمة السياسية ضمن الحد الأدنى، لأنني غير متفائل بالتوصل إلى كل المطلوب، ولكن في هذه اللحظة مطلوب التوافق على الحد الأدنى لاعتبارات وطنية وليست فصائلية، ويتطلب من الجميع الآن تأجيل هذه الصراعات والرؤى الفصائلية لحساب الرؤية الوطنية والمصلحة الوطنية والمجتمع السياسي الفلسطيني في الضفة وغزة حتى نبدأ مشوارنا ومسيرتنا الوطنية، ونفتح الأفق الذي بات مسدوداً بنوافذ من الأمل لشعبنا، وإذا لم نتقدم نحو هذه الوجهة سيكون رد الفعل في أوساط شعبنا تجاه الجميع سلبيا جداً، وأخر الإحصاءات تقول أن 50 % من شعبنا الفلسطيني لم يعد يثق بأي من كل القوى السياسية، وهذا مؤشر خطير، لكنه موضوعي في ظل هذا التناحر أو العلاقات السيئة المملوءة بالتناقضات ، ولامناص الا من اللقاء والتوحد على الحد الأدنى، وإلا فإن هناك أيضاً اعتداءات قادمة ولا أحد يتصور أن العدو الإسرائيلي سيتركنا، وأن هذا العدوان هو العدوان الأخير، ومن هنا تتجلى أهمية هذا التوحد على الحد الأدنى الوطني الفلسطيني والحد الأدنى التنموي في اتجاه ما يسمى بإعادة الإعمار في قطاع غزة.
ما جرى من صمود وطني فلسطيني خلال الحرب هو نصر نتيجة الصمود والمقاومة وشلال الدم الذي نزف ، ولكن مازالت المسافات كبيرة جداً بين الانتصار الحقيقي وبين الصمود الفلسطيني الراهن ، فالأسباب الرئيسية للعدوان هي تدمير المشروع الوطني الفلسطيني خلفيته الدولة اليهودية النقية التي يجب أن تسيطر، وإسرائيل تتحول إلى دولة إمبريالية صغرى في المنطقة، وجزء من الامبريالية الأمريكية الأم، فإسرائيل لها دور ووظيفة منذ إنشائها، وهذا الدور يتطور باستمرار في موازاة تطور المصالح الامبريالية للنظام الرأسمالي العالمي في المنطقة العربية، وكلما تزايدت هذه المصالح للنظام الرأسمالي الامبريالي العالمي في المنطقة لا بد أن يترافق معها تزايد في قوة وبشاعة القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية للعدو الإسرائيلي بما يمكنه من استكمال مهماته في ضرب المشروع الوطني الفلسطيني، والمشروع القومي العربي في آن واحد، فهذا العدوان ينطلق من سياسة محددة تجاه قطاع غزة والضفة الفلسطينية والقدس، وبالتالي وضع مستقبل القضية الفلسطينية والمشروع الوطني ومنظمة التحريرالفلسطينية امام مخاطر المرحلة المقبلة، ، فهذه قضية خطيرة علينا أن نتصدى لها ونوجه لها كل النقد المطلوب لكي نستعيد دور منظمة التحرير ككيان جامع وإطار أساسي يجمع كل القوى الفلسطينة، ولتتوقف كل هذه السياسات الهابطة لكي نستعيد معاً دور منظمة التحرير الفلسطينية الوطني من خلال تفعيل مؤسساتها .
ان تراكم مأساة حالة التشرذم في الفصائل الفلسطينية التي اصبحت ايضا تفتقد الدور المطلوب، حيث لم نرى من هو مستعد "للتضحية" وكأنه يتلاشى دورها واحيانا تغيب عن الأفق تماما، وبهذا المعنى بالذات فان هذه الفصائل تغيب عن الوجود امام الاحداث المصيرية رغم انها كانت في طليعة المقاومين ونفذت العديد من العمليات البطولية والنوعية وقدمت قادتها ومناضليها شهداء، ولكن في المراحل الاخيرة ونتيجة ثقافة التعصب والحفاظ على المنصب وليس المهمة ، اضافة الى ثقافة "التمايز" ونهج القيادة الفردية وحولت وحدة التنظيم ومؤسساته واطره إلى خسارة لا طائل من ورائها، والى شعار يقال في المناسبات المهمة، والى مقابلات وتصريحات اعلامية ، لصالح أهدافها الطبقية الخاصة، دون اعادة الاعتبار لدورها وتحشيد الجماهير الفلسطينية وذلك استجابة لطبيعة ومهمات مرحلة التحرر الوطني، من هنا نرى اهمية ان تكون القيادة لها رؤيتها وفكرها وممارستها الطبقية وقادرة على حماية مصالح وحقوق الشعب، ويجب على هذه الفصائل بدلا من الانكفاء للحفاظ على مصالحها الضيقة كما هو حاصل الآن، وتجيير النضال الفلسطيني واستثماره في خدمة الامتيازات والثراء غير المشروع ، اعادة تطوير اوضاعها بما ينسجم مع تطلعات الشعب الفلسطيني ونضاله الوطني .
من هنا اقول بكل صراحة ان اي تنظيم لا يملك رؤية فكرية متماسكة في تفسير الظواهر السياسية والنضالية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وفي رصد المتغيرات وابتداع الحلول و يقدم للمجتمع جدول اعماله السياسي الاجتماعي ، نتيجة انشغاله بالبحث في وسائل المحافظة على شخصنية التنظيم بدون هوية فكرية وبدون قيادة جماعية ،يفقد دوره ووجوده اذ لم يبادر الى ايجاد الحلول لازمته الداخلية في الواقع الوطني وبذلك تكون فرصة لانطلاقة جديدة ودور جديد بادوات جديدة.
ومن الدروس التي ينبغي استخلاصها من حرب غزة، فان من واجبات جميع الفصائل والقوى والاحزاب الفلسطينية استنهاض اوضاعها والوقوف امام ازماتها الداخلية ومعالجة مكامن الضعف والتمسك بخيارات الشعب الفلسطيني الكفاحية ، والتوجه فورا للأمم المتحدة ومؤسساتها، واتخاذ الخطوات اللازمة لوضعها أمام مسؤولياتها تجاه الحقوق الوطنية والإنسانية للشعب الفلسطيني، والسعي لعقد مؤتمر دولي لوضع العالم أمام مسؤولياته تجاه حقوق الشعب التي أقرتها الشرعية الدولية، كما حان الوقت لاستكمال خطوات توحيد المؤسسات الفلسطينية، واستكمال الاستحقاقات الديمقراطية ، وتفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية، وتعبئة الشعب الفلسطيني لمواصلة نضاله من أجل تحرير الأرض الفلسطينية، باستخدام كافة الوسائل والسبل النضالية المتاحة لإرغام العدو الصهيوني على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية وطرد المستوطنين وهدم جدار الفصل العنصري.
وفي ظل هذه الظروف بات من الطبيعي إقامة أوثق العلاقات مع الشعوب العربية والإسلامية والصديقة وخاصة احرار العالم وكافة الاحزاب والقوى التقدمية العربية والعالمية، بعيدا عن الحساسيات والصراعات الداخلية للأنظمة؛ بهدف استقطاب أوسع الفئات الاجتماعية والسياسية الشعبية والرسمية لدعم نضال الشعب الفلسطيني في معركته ضد الاحتلال؛ باعتبار أن الشعب الفلسطيني ، ممثلا بمختلف فصائله، يخوض معركة تحرر وطني؛ الأمر الذي يتطلب استثمارَ العلاقات الثنائية بين الفصائل وامتداداتها الإقليمية والدولية لصالح النضال الوطني الفلسطيني لتأمين أوسع دعم للقضية الفلسطينية، وغني عن التذكير أن القضية الفلسطينية تمر بأخطر منعطف في تاريخها، وأن المعركة التي خاضها الشعب الفلسطيني أفشلت أهم حلقة من حلقات تصفية القضية الفلسطينية، خاصة بعد اختلال موازين القوى في المنطقة العربية لصالح العدو الصهيوني، وفي ظل تدمير سوريا والعراق وإدخال الوطن العربي في حروب مذهبية وطائفية كريهة بهدف تفتيته وتدميره.
نحن على ثقة بقدرات وطاقات الشعب الفلسطيني اللا محدودة والتي شاهدنا إحدى صورها في المعركة الأخيرة في قطاع غزة ، فهي قادرة على التصدي لمحاولات الأعداء ليس لإحباط “مشروع تصفية القضية الفلسطينية” فحسب، بل وتحويل المعركة إلى خطوة مهمة نحو التحرير. آخذين بعين الاعتبار أن محاولات الإمبريالية والصهيونية لن تتوقف عن مواصلة اعتداءاتها على الشعب الفلسطيني، واستخدام أساليب جديدة للدس والوقيعة ومحاولة زعزعة الصف الفلسطيني، وجر الفلسطينيين لصراعات جانبية، لتحقيق ما فشلت عن تحقيقه في المعركة العسكرية.
امام كل ذلك نقول ان شعبنا افشل المخططات الإسرائيلية والأميركية والغربية والعربية ، وجاءت النتائج تكرس ذلك في سلسلة تتواصل حلقاتها تباعاً على المستوى العربي والدولي، وفي الزمن، وبحجم يفسح للاستنتاج بأن ما بعد الحرب على شعبنا في قطاع غزة لن يكون كما قبلها، ومن اهم النتائج إعادة الاعتبار إلى القضية الفلسطينية التي حل مكانها الصراع مع "الإرهاب" وبعودة وهج القضية الفلسطينية، سقط مسار المفاوضات برعاية امريكية ، فكانت الادارة الامريكية تهدف إلى تكريس دولة إسرائيل العنصرية اليهودية دون سواها، وتشتيت الفلسطينيين مجدداً بين الأردن ومصر وبقية أماكن الشتات، في ملحقات تابعة وخاضعة وممزقة ببطش السلطات وبعسف وإرهاب قطعان المستوطنات.
لهذا نرى ان أسباب اضفاء صفة الانتصار على صمود شعبنا في غزة ومقاومته، رغم فداحة الخسائر البشرية والمادية التي إذا قيست نسبتها بنسبة عدد سكان الولايات المتحدة لفاقت، في مستوى الخسائر البشرية، يجعل ما بعد صمود غزة عنوانا لمرحلة جديدة في كفاح الشعب الفلسطيني من جهة، وفي الصراع ضد مشاريع الهيمنة الأميركية، من جهة أخرى. إن الاشارة إلى حجم وأهمية بعض نتائج المعركة في مستويات الصراع كلها، يطرح قضايا في غاية الجدية.
هذه عناوين متلازمة ومتكاملة في معركة واحدة ومصيرية من أجل ألا تذهب سدى دماء أطفال غزة وتضحيات وصمود شعبها ومقاوميها، ومن أجل أن تهزم العنصرية الصهيونية المجرمة فلا تتكرر المآسي والمجازر في فلسطين أو لبنان أو العراق أو مصر أو سوريا، يجب مواجهة المشروع الأميركي ـ الاسرائيلي المدعوم من الأنظمة العربية الرسمية وهو الذي يستهدف، إعادة تكوين المنطقة تحت شعارات مختلفة، أبرزها شعار الشرق الأوسط الجديد، الذي يستهدف القضية الفلسطينية بوجودها، تحت غطاء السلام الأميركي الذي يحتضن الدولة الصهيونية ويتآمر على حق شعب فلسطين بالعودة وحقه التاريخي بدولته المستقلة وعلى قاعدة الغاء قضية فلسطين واستبدال الصراع مع الكيان الصهيوني بافتعال صراعات بديلة وعلى الأسس العرقية والطائفية والمذهبية، و نهب ثروات العربية واستغلال نفطها لفرض السيطرة الإمبريالية على المنطقة وإدخالها ضمن الاستراتيجية الإمبريالية العالمية الذي يهدد في حالة نجاحه بخلل كبير في ميزان القوى الدولي لصالح الإمبريالية مما يشجعها على المضي في مغامراتها العدوانية، مما يستدعي من الشعوب العربية وقواها الوطنية والتقدمية والقومية استنهاض دورها في مواجهة المخططات الإمبريالية والصهيونية ليس ضرورة بالنسبة لصالح شعبنا فحسب ولكنه ضرورة حيوية أيضاً لصيانة السلام العالمي.
من هنا تبرز أهمية الوحدة الوطنية، لان منظمة التحرير الفلسطينية لم تعد تعبر فقط عن الكيانية والهوية للشعب الفلسطيني، لقد باتت المنظمة تعبر أيضا عن وحدة وطاقات كل الشعب الفلسطيني، وعن الثنائية المترابطة عضويا بين الكيانية والوحدة الوطنية الحقيقية، لقد أصبحت في الواقع تشكل مرجعية سياسية وبرنامجية وكفاحية مباشرة للشعب الفلسطيني، وتتقدم بصورة منسجمة مع تنامي الحركة الشعبية الفلسطينية وتطور وفاعلية فصائل المقاومة الفلسطينية بعد ذلك.
ان ما يحدث اليوم من مناكفات ومواقف تضر بانتصار شعبنا وتضحياته ، واقول بكل وضوح ان هنالك سيناريو قادم ، رغم ما هو مطروح اقليمياً ودولياً نقول ان قضية المقاومة هي اماني بالنسبة للشعب الفلسطيني ، وكذلك الكفاح المسلح وتجربته في ظل خلط وغلط في كل مفاهيم الصراع ومحتوياتها التاريخية والثقافية التي كان يمكن ان تنجز او ينجزها الشعب الفلسطيني .
ختاما : آن الاوان لتعزيز الوحدة الوطنية ، من دون تلكؤ أو مماطلة أو تهرب أو خضوع لضغوط خارجية، على قاعدة الشراكة الوطنية والمقاومة التي عمدت وحدة النضال الوطني بدماء الشهداء الغزيرة التي لن تغفر لأحد أية ذرائع أو حجج للتراجع عنها، فالوحدة الوطنية استحقاق استراتيجي لا محطة تكتيكية، لأنها السلاح الأمضى في مواجهة العدو الاسرائيلي ، والضمانة الاكيدة لإلزام دولة الاحتلال بتنفيذ بنود اتفاق التهدئة المقرر من خلال استكمال مفاوضاته في القاهرة ، والإطار الجامع للتوافق على استراتيجية وطنية ، والأرضية الصلبة لمواصلة النضال من أجل تقرير المصير والحرية والاستقلال والعودة واقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة بعاصمتها القدس .
كاتب سياسي