هذا هو الإسلام
((( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا ... )))
روى المؤرخ ابن إسحق في السيرة النبوية أن شاس بن قيس ـــ وهو يهودي من بني قينقاع ، وكان شيخاً شديد الحقد على المسلمين والحسد لهم ـــ مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج وهم في مجلس يتحدثون ، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة ، وغاظه ما رآه من جماعتهم وصلاح ذات بينهم بعد ما كان بينهم من العداوة ، فقال والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم في هذه الدار من قرار ، فأمر فتى شاباً من يهود فقال : اعمد إليهم واجلس معهم وذكِّرْهم يوم بُعاث وما كان قبله من أيام حربهم ، وأنشد ما قالوه من الشعر في ذلك ، ففعل الفتى ، ولم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض ، وتكلموا فتفاخروا وتثاوروا وتنازعوا حتى تواثب رجلان من الحَيَّيْن على الركب ، وغضب الفريقان وقالوا السلاح السلاح ! وانضمت الأوس بعضها إلى بعض ، والخزرج بعضها إلى بعض ، وتجاوز الناس على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فخرجوا واصطفوا للقتال .
وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى قام بين الصفين ، فجعل يهدئهم ويعظهم ويقول { يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ؛ ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً ؟ الله الله ، وتلا قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } آل عمران 100-103 ، ورفع صوته بها } .
فلما سمعوا صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن أنصتوا له وجعلوا يستمعون ، فلما فرغ عرفوا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم وعدو الله تعالى شماس ، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا ، وعانق الناس بعضهم بعضاً من الأوس والخزرج ، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين .
لقد آمن أهل المدينة المنورة بالقرآن ورسالة الإسلام ، واتبعوا رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم وبايعوه ونصروه ، فسماهم الله تعالى الأنصار ، والأنصار هم الأوس والخزرج الذين كان بينهما في الجاهلية حروب ودماء وبغضاء ، فأنعم الله عليهم بهذا الدين الذي جمع قلوبهم على التوحيد ، وبالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أقام الوحدة بينهم وفي بلدهم وموطنهم ، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم وألف بينهم بالإسلام .
ولكن المتربصين بالمهاجرين والأنصار ما فتئوا يحيون فيهم ذكريات الجاهلية والحروب الأهلية ، فعدوهم يدرك تماماً أن وحدتهم خطر عليه ، وهذا دأبه وديدنه عبر تاريخه الطويل مع هذه الأمة ، وما زال كذلك حتى اليوم ؛ يذكي نار الفتنة والفرقة والتفريق بينهم بكل السبل التي ربما عجز عنها إبليس لأنه يوقن أن هلكة الأمة ودمارها في فرقتها .
اعتبر الإسلام الوحدة من أعظم أصوله ، ومما عَظُمَتْ به وصية الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم لأنها من أهم عوامل قوة الأمة وتحقيق غاياتها ، وهي ضمان عيشها بأمن وطمأنينة ، فبها تكون مرهوبة الجانب مهيبة الحمى وعزيزة السلطان . لذا أغلق الله عز وجل مداخل الشيطان كلها ، فنهى عن التنازع والاختلاف الذي هو ضد الوحدة والاجتماع ، قال تعالى { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } الأنفال46 ، أي لا تختلفوا فتختلف قلوبكم وتفشلوا فتضعفوا وتذهب قوتكم .
وحذر سبحانه من محنة الفرقة فهي سبب الهلكة ، قال تعالى { قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ } الأنعام65 . فإن التفرق والاختلاف باب الفساد الذي وقع في هذه الأمة بل وفي غيرها ، روى أحمد أن جابراً رضي الله عنه قال { كنا جلوساً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فخط خطاً هكذا أمامه فقال : هذا سبيل الله عز وجل ، وخطين عن يمينه وخطين عن شماله قال هذه سبيل الشيطان ، ثم قال { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الأنعام153 .
وجاء الأمر بالوحدة بين المسلمين والتحذير من مفارقة الجماعة فهي منجية أبناء الأمة ، قال صلى الله وسلم { عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد } رواه الترمذي .
وإذا كان الاختلاف والتفرق من أكبر المحن التي ابتليت بها هذه الأمة في هذا الزمان ؛ ومن أصعب المصائب التي حلت بها وفتَّتْ في عضدها ، وأطاحت برايات مجدها ، فإن الاختلاف والفرقة بين أبناء الشعب الواحد والوطن الواحد أعظم الكوارث والنوازل ، وبالأخص إذا آلت إلى تنازع واقتتال الأخوة .
فلنعلم أن { يد الله مع الجماعة } رواه الترمذي ، ومن شذَّ شذَّ فى النار ، وأن ما نكرهه فى الجماعة خير مما نحبه فى الفرقة ، لقوله صلى الله عليه وسلم { الجماعة رحمة والفرقة عذاب } رواه أحمد . ولْنعلم أيضاً أن الوحدة ليست مجرد شعار نرفعه لنضحك به على أنفسنا أو غطاء نخفي به الخلافات العميقة بيننا ، إنما هو تكليف أوجبه الله علينا ، وفريضة شرعية أمرنا الله عز وجل بإقامتها ، فإذا كانت بحق الشعوب الأخرى ضرورة وطنية لضمان أمنها واستقرارها ؛ فهي بحق شعبنا الفلسطيني حقنا المغصوب ووطننا المسلوب مسألة حياة أو موت ، لأننا بتفرقنا وتنازعنا لا نشكّل أيَّ هاجس خوفٍ لعدونا ، فاختلافنا وتنازعنا ينبغي أن يكون مع الاحتلال فقط .
إن ما نراه وما نسمعه منذ فترة ـــ وبالأخص منذ العدوان الصهيوني الغاشم على غزة ـــ من مناكفات وتجاذبات بين حركتي فتح وحماس عبر وسائل الإعلام وغيرها تفسد علينا جميعاً فرحة الانتصار ، وتضيّع علينا عظمة هذا الإنجاز الوطني الرائع الذي يستخف به بعض الناس ويعترف به الاحتلال ، وتعيدنا إلى أجواء الانقسام البغيض الذي عانى الجميع ويلاته ، وعاهدنا الله أن نلقيه وراء ظهورنا وألآَّ نشمت بنا عدواً بالعودة إليه .
لذلك فإننا نناشد جميع القوى والفصائل الفلسطينية تكريس المصالحة الوطنية الحقيقية التي فرحنا بالتوافق عليها ، ونطال الجميع بتعزيزها بالنوايا والأقوال والأفعال ، واستحضار مشاعر الأخوة : أخوة الدين والدم والدار التي تربط بين أبناء هذا الشعب الصابر المصابر المرابط ، وإلى وقف الحملات الإعلامية وتبادل الاتهامات التي تؤدي إلى التوتر وإثارة الفتن ، وإلى ضرورة التحلي بضبط النفس والتسامي على مظاهر الخلاف ، وتبنّي الحوار الصادق ونبذ كل ما يؤدي إلى الفرقة والتنازع ، فقضيتنا الفلسطينية العربية الإسلامية العالمية العادلة أكبر من هذه السفاسف والصغائر ، وشعبنا الجريح وحده يدفع الثمن باهظاً من حياته ووجوده وأمنه واستقراره .
ونوجه النداء إلى المخلصين من أبناء شعبنا وأمتنا ببذل جهود الصلح والإصلاح والمصالحة بين الفئات المختلفة ، وإلى الدول العربية الشقيقة ذات النفوذ والتأثير على كل الأطراف أن تقف ـ كما عهدناها ـ من جميع الفصائل الفلسطينية على مسافة واحدة ، والعمل على تقريب وجهات النظر وإزالة سوء التفاهم بين الأخوة أبناء الشعب الواحد ، فعدونا واحد يستهدفنا جميعاً دون تفريق بين حركاتنا وفصائلنا ، وسبيلنا واحد يسعنا جميعاً ولا يضيق بأيٍّ منا مهما اختلفنا ، وهدفنا واحد هو حريتنا ودولتنا المستقلة ذات السيادة الكاملة على أرضنا ووطنا وعاصمتنا القدس المباركة .
فلا خيار أمامنا غير الوفاق والاتفاق على القواسم المشتركة بيننا وعلى الثوابت الوطنية التي لا تقبل التفريط أو التنازل عنها أو التفاوض عليها ، ولا سبيل أمامنا لبلوغ غاياتنا غير وحدة الكلمة والصف والموقف .
ونهيب بالجميع توجيه الجهود للتصدي لممارسات الاحتلال ضد مقدساتنا وبالأخص المسجد الأقصى المبارك الذي نمنع جميعنا الصلاة فيه بينما يستباح كل شبر فيه للصهاينة المعتدين ، وتتهدده مخاطر التقسيم والتهويد والهدم والتقويض ، وإقامة هيكل اليهود في مكانه ، ولمواجهة تصعيد إسرائيل عدوانها المتواصل على شعبنا في سائر المدن الفلسطينية المحتلة واعتقال العشرات من أبنائها ، وتضييق الحصار بكل صوره على شعبنا ، ولوقف الجرائم اللاإنسانية التي تقترفها سلطات الاحتلال الإسرائيلية ضد أسرانا البواسل في أقبية سجونها الغاشمة .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي/قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس www.tayseer-altamimi.com ، [email protected]