غدا سأبدأ حياتي من جديد، أعلم أن البداية ستكون صعبة، وصعوبتها لا تكمن في قسوة الحياة أو مشقة العمل، بل في فراق الأهل والأحبة والأصدقاء والمدينة والحي والزقاق، الحنين لا يرتبط فقط بالكائنات الحية بل يمتد لكل التفاصيل الصغيرة التي كان للمكان دور في تشكيلها داخل الوجدان، لا أرغب في سماع موعظة الانتماء للأرض والوطن لما لها من بعد تشكيكي بعشقي له، كأن رحيلي عنه يقطع الحبل السري بيننا، الحبل الذي ما زال ينظر إليه البعض بماديته، دون أن يدرك حقيقة الخلق التي تقوم على أن الطفل لا يفقد ارتباطه بأمه فور خروجه من رحمها وقطع الحبل السري بينهما.
كان من الواضح أن الشاب اتخذ قراره بالهجرة بعد صراع داخلي امتد طويلاً، وحين حزم أمره لا يريد أن يسمع ما يثبطه فيما عزم عليه، فهو يعرف التفاصيل الدقيقة لرحلته نحو المجهول، حفظها عن ظهر قلب، بدءاً من ليلته الأخيرة التي سيمضيها مع أهله، وما عليه أن يفعله كي لا يكتشف الأهل سره الذي أباح به لبعض الأصدقاء ولم يتمكن من فعل الشيء ذاته مع والديه، هو يدرك جيداً أن الهجرة لا يمكن تقبلها من الأهل، وبالتالي لن يخبرهم بقراره إلا بعد أن يكون قد غادر جغرافية الوطن، وهو يعرف على وجه الدقة خارطة الرحلة ومتطلباتها والعقبات التي تنتظره في البر والبحر، كل ما بات يتمناه أن يحط بأقدامه على شواطئ البحر الشمالية.
منحنى هجرة الشباب من قطاع غزة آخذ بالارتفاع بشكل ملحوظ في الأشهر القليلة السابقة، الملفت فيها أنها لم تعد بالصعوبة التي كانت عليه في السابق، لا من حيث العراقيل التي تكتنف الرحلة من أرض الوطن حتى الشواطئ الأوروبية، ولا من حيث المعوقات التي كانت تضعها الدول الأوروبية أمام الهجرة غير الشرعية.
على مدار سنوات عدة شاركت في العديد من المؤتمرات التي نظمتها دول الاتحاد الاوروبي، كان دوماً موضوع الهجرة غير الشرعية بنداً على أجندتها سواء كان عنوان المؤتمر له علاقة به أم بعيداً عنه، الهجرة الغير شرعية بمثابة الهاجس الذي يقلق مضجع دول الاتحاد الأوروبي، ولا يمكن لحزب سياسي أن يتجاهل الهجرة غير الشرعية في برامجه، فما الذي حصل حتى تفتح الدول الأوروبية ابوابها أمام هجرة الشباب وبالتحديد من قطاع غزة؟، هل يأتي ذلك ضمن منظومة عمل سياسي نجهل تفاصيلها أم أن العصابات التي تشرف على الهجرة غير الشرعية باتت أكثر تنظيماً ومقدرة على اختراق قواعدها؟.
لا شك أن المقبلين من قطاع غزة يحظون بتسهيلات لا تتوفر للشباب العربي، وهو ما يدفع البعض من شباب العرب للادعاء بأنه من سكان قطاع غزة، وهو ما دفع الدول الأوروبية لتضمين المقابلة بجملة من الأسئلة يتم التأكد من خلال الاجابة عنها إن كان المهاجر بالفعل من غزة أو أن قدميه لم تطأا غزة بالمطلق.
ليس مطلوباً منا أن نبحث عن آلية لمنع هجرة الشباب، بل علينا أن نعالج الأسباب التي تدفع الشباب للتفكير بالهجرة، مؤكداً أن نسبة البطالة المرتفعة في قطاع غزة وحالة الفقر المدقع تقف على رأسها، أكثر من مائة ألف خريج جامعي انضموا خلال السنوات القليلة السابقة لجيش العاطلين عن العمل، ألا يشكل هذا الرقم بحد ذاته هاجساً علينا ألا نغفل تداعياته عند الحديث عن الهجرة؟.