مبادرة الرئيس ومحكمة الجنايات

بقلم: هاني المصري

في أواخر تمّوز الماضي، قام صائب عريقات بدعم ومباركة الرئيس بتقديم رسالة تطالب بالانضمام إلى محكمة الجنايات الدوليّة، وطلب أن يوقّع عليها جميع أعضاء اللجنتين المركزيّة لحركة فتح والتنفيذيّة للمنظمة والأمناء العامّون للفصائل حتى يتحمّل الجميع المسؤوليّة عن الانضمام وتداعياته.

وبالفعل حمل عريقات الرسالة الموقع عليها إلى خالد مشعل، وطالبه بالتوقيع عليها، وطلب الأخير مهلة للتشاور، وبعد تردد أكثر من أسبوعين وميل للرفض في البداية؛ حسمت "حماس" أمرها ووقع موسى أبو مرزوق باسم "حماس".

كان من المتوقع بعد موافقة "حماس" أن يوقع الرئيس رسالة الانضمام – كما التزم - بعد عشرة أيام على وقف العدوان، وبدلًا من ذلك تحدث الرئيس أنه لا يعترف بتوقيع أبو مرزوق ويريد توقيع خالد مشعل لأنه صاحب القرار، وبالرغم من تصريح مشعل أكثر من مرة بأنه يؤيد ويدعو إلى هذه الخطوة لم يقم بها أبو مازن، فيما اعتبر رسالة بأنه أجّل الانضمام إلى محكمة الجنايات الدوليّة إلى إشعار آخر.

سبب انتظار أبو مازن هي المفاجأة التي تحدث عنها، وتمخّضت عن مبادرة سياسيّة تقوم على عدة مراحل، تبدأ بالرهان مجددًا على الإدارة الأميركيّة من خلال مطالبتها بالدعوة إلى مفاوضات ثنائيّة تستمر تسعة أشهر على أساس مرجعيّة إقامة الدولة الفلسطينيّة على حدود 67 مع تبادل أراضٍ ضمن جدول زمني، وعلى أساس قيام إسرائيل بتجميد الاستيطان وإطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى.

ويأتي الرهان على الإدارة الأميركية بالرغم من الحصاد المرّ له خلال عشرات السنين، لأن الموقف الأميركي معروف بانحيازه لإسرائيل، وعندما تختلف الإدارة الأميركية مع الحكومة الإسرائيلية حول بعض النقاط والتكتيكات فإنه يكون خلافًا بين حلفاء تربطهم علاقات عضويّة إستراتيجيّة يشبه الخلاف الدائر داخل الحكومة الإسرائيليّة نفسها.

إن مفتاح تفسير الانتظار يعود أيضًا إلى الخشية من المجابهة التي يمكن أن تؤدي إليها خطوة الانضمام إلى محكمة الجنايات الدوليّة، التي تبدأ أهميتها من كونها تشكل إغلاقًا لمسار المفاوضات الثنائيّة، وتدشينًا لمسار جديد يشمل السعي لتجميع أوراق القوة والضغط على اختلاف أنواعها، بما فيها فتح الطريق لمعاقبة إسرائيل على جرائمها السابقة، واللاحقة، والمستمرة، مثل جرائم الاستيطان والتهجير والإبعاد.

بالرجوع إلى المواد (11) و(12) من نظام روما، المؤسس لمحكمة الجنايات، فإن المحكمة لا تختص بالنظر في الجرائم التي ارتكبت قبل تاريخ نفاذ نظام روما، أي قبل تاريخ 1 تموز 2002، وفي حال انضمت دولة معينة إلى نظام روما فإن اختصاص المحكمة لا يمارس إلا على الجرائم التي ارتكبت بعد انضمام تلك الدولة للميثاق، إلا إذا أعلنت الدولة المنضمة قبول اختصاص المحكمة الجنائيّة على إقليمها قبل تاريخ انضمامها، ولكن بجميع الأحوال لا يمكن أن توسع المحكمة اختصاصها إلى ما قبل 1 تموز 2002، وبالتالي ما ارتكب من جرائم معاقب عليها دوليًا قبل العام 2002 لا تختص المحكمة الجنائيّة الدوليّة بنظرها، ونذكر هنا أن الاختصاص الشخصي للمحكمة يمارس تبعًا لجنسيّة المتهم وليس جنسيّة الضحيّة، أي يمارس الاختصاص الشخصي على الأشخاص المتهمين من رعايا الدول الأعضاء فقط.

النتيجة الوحيدة المضمونة للمبادرة الفلسطينيّة إذا لم ترتبط بمقاربة شاملة جديدة تسلّح المفاوض الفلسطيني بأنياب؛ هي إضاعة وقت ثمين ومنع توظيفه في سياق البناء على ما حققه الفلسطينيون بعد العدوان من عودة القضيّة إلى الصدارة، وتحقيق احتضان شعبي غير مسبوق للمقاومة، وإظهار حدود القوة الإسرائيلية رغم تفوقها والاختلال الفادح في ميزان القوى لصالحها، وتحقق درجة لا بأس بها من الوحدة السياسيّة، تجلت من خلال تشكيل وفد مشترك يتبنى مطالب المقاومة. وبدلًا من ذلك وما يتطلبه من إعطاء الأولويّة لتجسيد وحدة وطنيّة حقيقيّة على أساس شراكة كاملة وبلورة إستراتيجيات جديدة، بدأنا نشهد تحركًا متسارعًا فئويًا يهدد إذا استمر بالعودة إلى مربع الانقسام المدمر.

كان ولا يزال ممكنًا الشروع في حوار وطني شامل، من خلال تفعيل الإطار القيادي المؤقت للمنظمة للاتفاق على القواسم المشتركة، وإيجاد قيادة وسلطة واحدة تحكم في الضفة والقطاع، وتنظيم إدارة الخلافات، والعمل المشترك لرفع الحصار والإغاثة وإعادة الإعمار، وإطلاق سراح الأسرى، وتنظيم المقاومة بكل أشكالها وفقًا للظروف المناسبة لكل تجمع فلسطيني، والتركيز على المقاطعة الشاملة لإسرائيل، وملاحقتها على جرائمها من خلال الإسراع في الانضمام إلى المؤسسات الدوليّة، بما فيها وأولها محكمة الجنايات الدوليّة، وبعد ذلك يمكن التحرك عربيًا وإقليميًا ودوليًا والفلسطينيون سيكونون حينها في موقف أقوى بكثير، وبعد أن نصل إلى مرحلة يصبح فيها الاحتلال مكلفا لإسرائيل ومن يدعمها، وفي ضوء تبلور حركة تضامن عربي ودولي واسعة مع القضية الفلسطينية، يتم بعدها التوجه إلى الإدارة الأميركيّة ومجلس الأمن ومطالبتهما بتحمل مسوؤلياتهما، اللذين إن لم يقوما بها سيتم تقويض الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.

إن عدم الجرأة على الانضمام إلى محكمة الجنايات، ووقف التنسيق الأمني، وإعادة النظر في دور السلطة وشكلها ووظائفها والتزاماتها، ووضع الثقل اللازم لدعم المقاومة والمقاطعة، وإنجاز وحدة وطنيّة حقيقيّة؛ يعود إلى الضغوط والتهديدات الأميركيّة والإسرائيليّة بممارسة عقوبات سياسيّة وماليّة وغيرها، ما يمكن أن يؤدي إلى انهيار السلطة وفقدان أفراد وشرائح لنفوذها ومصالحها، متذرعة برواتب الموظفين التي يمكن إيجاد بدائل لدفعها من مصادر فلسطينيّة وعربيّة ودوليّة إذا اعتمدوا على مقاربة جديدة تكسر قيود أوسلو.

من يريد الحريّة عليه أن يستعد لدفع ثمنها، ومن يريد التوجه إلى خيار آخر بعد فشل مبادرة الرئيس عليه أن يستعين بالوحدة، التي من دونها لا يمكن الانتصار، فلا شيء أسوأ من الاستمرار بالأمر الواقع الذي عنوانه الأبرز التكيف مع الاحتلال والسعي لتحسين شروط الحياة تحت الاحتلال والانقسام. هذا الواقع الذي أضاع القضيّة والأرض والروح والوحدة، وحوّل السلطة إلى وكيل أمني للاحتلال وليس كما أرادها ياسر عرفات ومن سار على دربه خطوة وأداة على طريق التخلص من الاحتلال، وهذا ثمن أكبر من الثمن الذي يمكن دفعه إذا سار الفلسطينيون في طريق العزة والكرامة .. طريق الانتصار.

إذا كان الرئيس عازم على التوجه إلى محكمة الجنايات ووقف التنسيق الأمني وتسليم مفاتيح السلطة إلى إسرائيل، إذا لم تتجاوب الولايات المتحدة الأميركيّة مع مبادرته واستخدمت حق الفيتو ضده في مجلس الأمن – كما أعلن بعظمة لسانه؛ فلماذا لا يبدأ بترتيب البيت الفلسطيني من خلال إيجاد وحدة وطنيّة حقيقيّة قادرة على مواجهة المعارك القادمة، لأن الرفض الأميركي والإسرائيلي لمبادرته حدث، وعبّر عن نفسه من خلال رفضها علنًا وسرًا من قبل جون كيري ومندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة.

إن الذهاب إلى البيت الأبيض، ثم إلى مجلس الأمن والفلسطينيون ضعفاء ومنقسمون؛ يمثل إضاعة للوقت وتكرارًا لما حدث في العام 2011، حين ضاع العام كله في تقديم الطلب إلى مجلس الأمن - بالرغم من توصية مخالفة من معظم الخبراء والسياسيين الذين دعوا إلى التوجه للجمعية العامة أولًا - للحصول على عضويّة كاملة للدولة الفلسطينيّة، لأن الجميع يعرف أن الفيتو الأميركي يقف له بالمرصاد، وبلغ الوضع من السوء إلى حد لم نتمكن فيه من الحصول على الأصوات التسعة المطلوبة في مجلس الأمن للتصويت.

لقد صُوِّرَ الذهاب إلى مجلس الأمن حينها بوصفه ذروة المجابهة مع الإدارة الأميركية، في حين أنه كان فعليًّا تجنبًا للمجابهة وتأجيلًا لها لمدة عام على الأقل. كان ولا يزال من الأفضل أن نبدأ بالمواقع وبالمؤسسات والدول الصديقة لمراكمة القوة والضغوط، ثمّ الذهاب إلى مجلس الأمن والبيت الأبيض، اللذين سيضطران إلى الاستجابة للحقوق الفلسطينية، لأن عدم الاستجابة يمكن أن يؤدي إلى الأسوأ.

تبقى نقطة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن موقف خالد مشغل غير واضح من مبادرة الرئيس، حيث قال أكثر من مرة أن "حماس" مع أي مبادرة تنسجم مع "وثيقة الوفاق الوطني"، ولم يحدد إذا كانت مبادرة الرئيس تنسجم مع الوثيقة أم لا، وهذا الموقف حمال أوجه.