مقالتي عن غزة ليست من منطلق العصبوية والقبلية وفقدان الرؤية الشاملة ونسيان فلسطين التاريخية التي نعتز بالانتماء لها من رفح جنوبا حتى رأس الناقورة شمالا ومن نهر الاردن شرقا الي البحر المتوسط غربا ... وبطبيعة الحال لن اكون قطريا متناسيا وطني العربي الكبير من الخليج العربي الي المحيط الاطلسي .
خارطة الوطن الساكن بالقلوب والمتجذر بالعقول والاحاسيس والمشاعر لا يمنع من استرجاع الذاكرة للحديث عن الجزء من الوطن الذي ولدنا وتربينا بداخله وعلى ارضه كانت الولادة والطفولة والشباب وحتى الرجولة والشيخوخة .
انشدادنا للماضي محاولة يائسة لنسيان الواقع الضاغط علينا حفاظا على ما تبقى لدينا من عقولنا ومشاعرنا وتمنياتنا .
نسيان الواقع المؤلم المؤسف الكارثي الذي اصابنا بالإحباط وعدم الفهم لما يجري بيننا وعدم الامعان بالتفكير في المستقبل من شدة سوء الواقع وللأسف الشديد في واقع معادلة انسانية ووطنية لا منطقية تصل الي حد اللامعقول وغير المقبول .
غزة ... ايام زمان مع كل ما لها من مكانة كبيرة بحكم عوامل كثيرة ومتعددة تدفع بنا الى الماضي وواقع الزمن الجميل هروبا للخلف من واقعا مسيئ وخوفا من مستقبل مجهول لا نرى له ملامح ولا نلمس له اول من اخر وما يجري من قتل روح الامل من مستقبل منشود الذي عشنا ولا زلنا نعيش على اطلاله .
غزة ... ايام زمان ومساحتها الواسعة وشجر برتقالها وزيتونها والممتد على مساحة ارضها وما يميز المجتمع الغزي من محبة وتسامح تعاضد وتكافل وتعاون فاق في روعته وجماله مجتمعات عديدة فيها من التطور والتقدم والتطور الاقتصادي ما يزيد عنا الاف المرات في واقع الفقر المادي والبعد الطبقي واختصار الممتلكات والاموال على عائلات محدودة في ظل اغلبية تفلح بأرضها لتأكل ما تزرع وتبيع ما فاض عنها في ظل اسرة متماسكة متضامنة تعمل بالفلاحة وفي واقع وظائف قليلة وحالة عدم الرغبة في اشغال الوظيفة العمومية ولا حتى الوظائف الخاصة .
غزة ... ايام زمان وحتى نستطيع ان نصورها بالكلمات في ظل غياب الصورة وحتى يتفهمها القارئ ومن هم في ريعان الشباب وقلة ما يكتب عنها في زمانها الجميل وتاريخ نضالها وتضحياتها وما كان على ارضها من مقاومة باسلة فاقت الكثير من المدن والقرى .
غزة القديمة بأحياء الشجاعية والتفاح الدرج والزيتون أي شرق المدينة وحتى ما يعرف بالساحة (ميدان فلسطين) وموقع بلدية غزة الذي كان عبارة عن مستشفى تل الزهور والمنطقة الغربية الممتدة برمالها الصفراء حتى شاطئ بحر غزة ومنطقة الميناء القديم مرورا بالجميزات على طول شارع عمر المختار ولم يكن في تلك الفترة شارع الوحدة ولا شارع جمال عبد الناصر ( الثلاثيني ) .
غزة القديمة بجمالها وبساطة اهلها وروح اهلها الطييبين وعلاقاتهم الانسانية والاجتماعية والتي يسود فيها الاحترام والمحبة والخوف على الجار والوقوف مع الصديق وتماسك العائلات والاحياء في واقع عشرات العائلات والتي كان يسير امورها كبير العائلة الذي يحترم في جلساته واقواله ويلتزم الجميع بقراراته باعتباره الكبير لكل صغير ومحتاج والمجيب لكل سائل وصاحب شكوى كان الكبير قائدا وقدوة ويحترم من الجميع وليس كما هو حالنا اليوم .
كانت تعاليم ديننا الحنيف في كل علاقة وممارسة ولم يكن الدين له شكلا معيننا بقدر ما كان مضمونا ومعبرا عنه بسمات وصفات وعلاقات ومعاملات اساسها اركان ديننا الاسلامي الخمسة وفي واقع مساجد قليلة تعد على اصابع اليد الواحدة اذكر منها المسجد العمري الكبير ومن كانوا من مشايخ اجلاء (رحمهم الله ) اذكر منهم الشيخ اسماعيل جنينة والشيخ هاشم الخزندار والشيخ ناجي ابو شعبان شيوخ اجلاء ازهريون زرعوا الدين الصحيح في عقولنا وقلوبنا ونشروا المحبة والتسامح والعدل والمساواة والتراحم بين الناس .
غزة ... ايام زمان لم يكن فيها هذا العدد الكبير من المدارس بسبب قلة عدد السكان وما نشهده اليوم من كثافة سكانية الا ان العودة بالذاكرة الي المدارس القديمة حطين الهاشمية يافا صفد الفلاح الامام الشافعي اليرموك فلسطين والكرمل وصلاح الدين ومصطفى حافظ وكلية غزة وبعض مدارس وكالة الغوث .
كانت المدارس في ذلك الوقت منظمة ونظيفة ولها هيبتها ومكانتها كما كان للمدرس دوره واحترامه وعطاءه داخل المدرسة وليس خارجها وكان مستوى التحصيل العلمي متقدما وواضحا وليس كمان نحن عليه اليوم .
غزة ... ايام زمان لم يكن فيها وسائل اعلام الا القليل اذكر منها جريدة بصراحة للمرحوم ابو الخوالد السقا واخبار فلسطين للمرحوم زهير الريس وما كان يصلنا من صحف ومجلات مصرية مع كل قطار يصل غزة من القاهرة بصورة يومية وما كنا نستمع اليه من اذاعة صوت العرب ومشاهدة التلفزيون العربي المصري كما لم يكن في غزة جامعات وكل من يرغب بالدراسة الجامعية يسافر الي بيروت ودمشق وقله الي بغداد اما الاغلبية العظمى للراغبين بالدراسة الجامعية فكانوا يذهبون الي مصر حيث الدراسة المجانية وحتى المصروفات الشهرية لكل طالب من قبل الحكومة المصرية أي كانت المعاملة والمميزات افضل من الطلبة المصريين انفسهم .
كانت غزة ... ايام زمان ما قبل نكسة حزيران 67 ومنذ النكبة بالعام 48 تحت الادارة المصرية وللحق وللتاريخ ان مصر ومن خلال ادارتها كانت تحتضن القطاع واهله من مأكل وملبس تعليم وصحة ثقافة واعلام رياضة وشباب تجارة استيراد وتصدير وحتى السياحة الداخلية من خلال البعثات المصرية التي كانت تأتي الى غزة لشراء احتياجاتها وحتى الوثائق الفلسطينية كانت معنونة بأسم الجمهورية العربية المتحدة التي كان يستخدمها سكان القطاع للسفر للخارج .
تاريخ لا ينسى مهما كانت المتغيرات وعوامل الزمن لان مصر كانت ولا زالت وستبقى السند والداعم الاستراتيجي التي لا تتخلى عن مسؤولياتها القومية .
وحتى اعود الى غزة من حيث التاريخ والزمن الجميل ... فلا اجد غزة اليوم على زمانها .. ولا اجد غزة اليوم على محبتها ... تسامحها ... علاقاتها ...معاملاتها ... ولا اجد غزة اليوم على تكاتفها وتكافلها كما كان عليه الماضي مما يطرح العديد من التساؤلات ماذا حدث لنا ؟ ولماذا كل هذا التغيير السلبي ؟ ولماذا نحن على هذا السوء من ايام زمان ؟ ومن اين جاءت الفرقة والبغضاء الانقسام والتعصب ؟
من كان في غزة ايام زمان ... سيجد الفرق شاسعا مخيفا ومرعبا رغم التطور الشكلي في العمران والتجارة والتعليم والذي لم يرتقي بنا الي مستوى ايام زمان حيث الاطمئنان والعدل ... والحياة الافضل والابسط المحبة والتسامح الاشمل ولا اعرف اجابة وسببا جوهريا لما الت اليه امورنا ... فهل يعقل ان تكون غزة ايام زمان اجمل وافضل رغم الفقر؟ عن غزة اليوم رغم كل ما فيها الاجابة بحاجة الى بحث ودراسة لعلماء الاجتماع والنفس والسياسة والاقتصاد والتربية ورجال الدين والفصائل لعلهم يجدون اجابة شافيه وشاملة في ظل السؤال المطروح حول معنى التقدم الاكثر تطورا بنتائجه العكسية .
حقا ان غزة الممتدة والمستمرة بتاريخها وبشعبها المعطاء لا تستحق ما يجري لها من قصور واهمال وتشتت وانقسام في ظل دمار وكوارث وبطالة وفقر ... لان غزة هاشم تاج الوطن وشرف كرامته .