"موسم الهجرة إلى الشمال "رواية كتبها الأديب السوداني الكبير الطيب صالح , ونشرت في شهرسبتمبر عام 1966 ، وتحكي الرواية قصة طالب عربي سوداني , اسمه مصطفى سعيد , ذهب للدراسة في بريطانيا بعيدا عن بلده , لتبدأ رحلة الغربة والابتعاد عن الوطن والثقافة الغربية , ويتبنى قيم المجتمع البريطاني. وهناك يتعرف على فتاة بريطانية يتزوجها ويحمل جنسية بلدها , لكن بعد سبعة أعوام يعود إلى بلاده بعد أن انفصل عن زوجته المتبرمة من تصرفات الزوج الشرقي المسلم ، الرواية تحكي قصصا عن الغربة يرويها الراوي والبطل .
اخترت عنوان هذه الرواية , ليكون عنوانا لمقالي هذا , في موسم الهجرة الذي يجتاح بلدنا هذه الأيام , وخاصة من قطاع غزة المكلوم والمنكوب بالحروب والفقر والبطالة , إلى حد الاختناق , مما دفع آلاف الشباب إلى ركوب موجة الهجرة إلى الشمال , إلى بلاد الغرب , حيث حلم العيش الرغيد في بلاد آمنة ومستقرة , توفر لهم السكن والعمل والدراسة , وفوق ذلك ربما يحظى بفتاة شقراء يانعة تكون له زوجة , توفر له الجنسية في وقت قصير.
رواية الهجرة إلى شمال المتوسط من جنوب فلسطين , من القطعة المسماة قطاع غزة , المحاصرة من البر والبحر والجو , منذ حوالي الثمانية أعوام , شهد خلالها هذا القطاع أربعة حروب , أي بواقع حرب كل عامين , تلعن الحرب الجديدة التي قبلها , وتكون أشرس من سابقتها في القتل والتدمير , تحت مسميات مقيتة تجلب الاكتئاب قبل الدمار , فمن " أمطار الصيف " في صيف عام 2006 , في أعقاب أسر الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليط , إلى " الرصاص المصبوب " في شتاء 2008 – 2009 , إلى " عامود السحاب " في خريف 2012 , إلى " الجرف الصامد " خلال تموز وآب اللهاب عام 2014 , أو حرب الواحد وخمسين يوما , التي أتت على البشر والحجر والشجر , هي حرب الإبادة لكل شيء , وحرب البداية لموسم الهجرة للشمال , بعيدا عن قصف الطائرات وغبار الدبابات .
فقد طالعتنا الأخبار , عبر روايات الناس , وعبر الصحف ووكالات الأنباء والمواقع الإلكترونية , أن آلاف الشباب عبروا أنفاق رفح , وركبوا البحر عبر مراكب من ميناء الإسكندرية , أو الموانئ الليبية , وصولا إلى شواطئ ايطاليا ومالطا واليونان , وغيرها من البلدان , حيث ينتقل بعد ذلك من ينجو من أمواج البحر , التي ابتلعت المئات قبل الوصول إلى الحلم الأوروبي , حيث غالبا الاتجاه الأخير إلى الدول الاسكندنافية ( السويد والنرويج والدنمارك ) تستقبل هؤلاء الشباب الفارين من القصف الاسرائيلي والعسف المحلي , ومعظمهم من حملة الشهادات العليا , ولم يجدوا في بلدهم الفرصة للعمل , فالوظيفة هنا لمن ينتمي لهذا الفصيل المتنفذ أو ذاك , حيث فرصته الوحيدة غي ظل هذه الأوضاع , التطلع لما وراء البحر , رغم المخاطر المحدقة , والروايات التي تنتهي عن " تراجيديا " الغرق في عمق البحار , بعيدا عن الأهل والوطن , الذي قال فيه شاعرنا الراحل الكبير محمود درويش " هذا الشيء الممتد من الماء إلى الماء , لا هو وطن ولا هو خريطة " , والذي كان درويش يأمل ألا يكون حقيبة سفر , حين صدح في قصيدته الرائعة " وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر" , ويبدو أننا اليوم سنصرخ بعلو صوتنا المجروح والمبحوح من كثرة الجراح والصراخ " وطني ليس حقيقة وأنا لست بكافر ".
وتفيد الاحصائيات , أن الهجرة لم تتوقف حتى خلال الحرب , فخلال الخمسين يوما من الحرب وما تلاها من أيام الهدنة , تمكن نحو أربعة آلاف شاب من الهجرة من قطاع غزة إلى الدول الأوروبية في الشمال , بعد المخاطرة بعبور أنفاق رفح , التي تديرها بعض عصابات التهريب , قبل توصيلهم إلى ميناء الإسكندرية أو أحد الموانئ الليبية , حيث يتم تجميعهم لتقلهم بواخر صغيرة ومتهالكة تعرضهم للموت في كل لحظة , ورغم هذه المخاطر يركب الشباب البحر والصعاب , ويدفعون مبالغ كبيرة تصل إلى خمسة آلاف دولار , للوصول إلى الهدف المنشود, وهناك في بلاد العسل والأمن , يكفي أن تقول أنك قادم من بلاد الموت والدمار , لتحصل على السكن والاقامة والراتب , قبل أن تستقر بك الأوضاع للحصول على الجنسية , وبعد ذلك أعتقد أنك لن تفكر مثلما فكر مصطفى السوداني بالعودة إلى الوطن , الذي ترك لندن بجمالها وزوجته الشقراء , لأنه يعود إلى وطنه , وأسمعك تهمس لنفسك أي وطن سأعود إليه ," وطني ليس حقيقة وأنا لست منافق " , ولن أعود إلى هذا المسمى وطن , المكبل بالحصار والموت والدمار , وفوق ذلك خلاف الأخوة الأعداء , حيث يستحيل العيش ها هنا , وتتساوى فيه الحياة والموت.