انتصارٌ على العدو وخيبة أملٍ لدى الشعب

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

تغنى الفلسطينيون كثيراً في قطاع غزة خصوصاً، وفي كل الوطن المحتل وخارجه عموماً، بالانتصار السياسي الذي حققه الشعب ومقاومته على العدو الصهيوني، إذ أفشلوا مخططاته، وأبطلوا مشاريعه، وأجبروه على العودة خائباً بجنوده من حيث أتوا، فلم يحققوا ما يريدون، ولم ينفذوا ما انطلقوا من أجله.

ولا سلاحاً نزعوا، ولا صواريخاً أبطلوا، ولا قادةً قتلوا، ولا مقاومةً فككوا، ولا فصلاً بين الشعب والمقاومة عملوا، ولا صورةً قويةً لجيشهم رسموا، ولا ردعاً استعادوا، ولا نصراً حاسماً حققوا، ولا ترميماً لقدراتهم نفذوا.

بل إن صورة جيشهم العاجز بانت أكثر، وتردد ضباطه وقادة أركانه بدا أكثر وضوحاً، وقرارات قيادتهم وحكومتهم المرتعشة زادت، وخلافاتهم البينية تعمقت، وعدم اتفاقهم على المستقبل قد ظهر للعامة، وانعكس على الشعب والنخب، وعم بينهم الارتباك والتخبط، والتيه والضياع، وتشوهت لدى العالم صورتهم، وتبشعت سياستهم، وقاطعتهم دول، وحاصرت اقتصادهم حكومات، وعانى من القرارات اقتصادهم.

وخشي المستوطنون العودة إلى بلداتهم، ورفضوا مباشرة أعمالهم، ومزاولة حياتهم، وخافوا على أطفالهم وأولادهم من بداية العام الدراسي، وأبدوا تمنعهم ورفضهم، ورفعوا صوتهم وأظهروا شكاتهم، ولم يخفوا تذمرهم، ولم يسكتوا عن غضبهم، إذ أنكروا على جيشهم عجزه، وعابوا على قيادتهم السياسية فشلهم، وحملوهم مسؤولية ما آلت إليه أحوالهم، والسوء والخراب الذي حل في مستوطناتهم، وأنهم السبب في خلو المستوطنات، ورحيل وهروب المستوطنين إلى مدن العمق، أو سفرهم خارج البلاد.

وفي الجانب الآخر، حيث الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، الذي احتضن المقاومة ورعاها، ودافع عنها وحماها، وضحى بين يديها وسبقها بالعطاء، وقدم فما تأخر، وبذل فما بخل، وأعطى بسخاء، وضحى بجود، وصبر بلا حدود، ورسم للشعب ومقاومته صورةً ولا أبهى ولا أجمل.

إذ ما تذمر منها، ولا شكى عليها، ولا أفرح العدو بشكوى، ولا أسر الكارهين بنقد، ولا تخلى عن مقاومته في ظروفها الصعبة، ولا ابتعد عنها في محنتها الشديدة، بل حماها بالضلوع والحنايا، واحتضنها في القلب والصدر، وسكت على استشهاد أولاده، وفناء عائلاته، وتدمير بيوته ومساكنه، وخراب حياته وضياع مستقبل أطفاله، وما زاده اللجوء إلا ثباتاً، وما ورثه الدمار والقصف إلا ثباتاً وإصراراً.

وقد وثق العدو بينه وبين المقاومة علاقته، وعمق بها ارتباطه، وعضد معها وشائجه، وجعل عراها وثيقة، ونياطها متينة، إذ المقاومة لديه أعز وأغلى، والوطن عنده أسمى وأرقى، وأعظم قيمةً، وأجل مكانة، وأشرف معنىً وحقيقة، فتهون أمامه التضحيات، وتتضاءل دونه النفائس والأرواح.

ولكن الشعب المعنى الجريح، المتألم المتوجع، الباكي الحزين، احتسب من فَقَدَ عند الله شهداءً، وقدمهم بين يديه جلَّ شأته قرابين، برضى نفس، وراحة ضمير، وسأله سبحانه أن يعوضهم عن الفقد خيراً، وعن الشهادة جنةً ونعيماً، وأن يجعل تضحياتهم سبيلاً للحرية، وطريقاً للوحدة، وبوابةً لمستقبلٍ بلا آلام، وغدٍ بلا أحزان، فلا حصار ولا عقاب، ولا حرمان ولا معاناة، ولا اقتتال ولا خصومة، ولا فتنة ولا عقوبة.

ولكن الشعب الفلسطيني هاله ما أصاب قيادته بعد الحرب، وما حل بسلطته وفصائله بعد انتهاء العدوان، وانسحاب جنود العدو، فأزعجه اختلافهم، وأغضبه تراشقهم الإعلامي، وتبادلهم الاتهامات، وفضحهم لأنفسهم أمام العدو والصديق.

إذ أضاعوا باختلافهم نتائج العدوان، وأفسدوا ثمرة الصمود، وأصابوا الشعب المشرد بغصة، وألحقوا به ندماً وحسرة، وحققوا للعدو ما عجز عن تحقيقه بالحرب، إذ أثلج صدره ما يرى، وأسعده ما يشاهد.

فالمسؤولون الفلسطينيون انشغلوا بأنفسهم عن الشعب، والتفتوا إلى مكاسبهم ومصالحهم، ونسوا حاجات الشعب المشرد في الشوارع بلا بيوتٍ ولا مساكن، والجائع الفقير بلا عمل ولا مال ولا مصدر للزرق، والمحاصر الممنوع من المغادرة والسفر، فلا فرصة أمامه لمغادرة القطاع الضيق المخنوق، والانعتاق من قيد الحصار، للعلاج أو العمل، أو مواصلة التعليم، أو جمع الشمل واللقاء.

الشعب الفلسطيني مصدومٌ مشدوهٌ متألمٌ حزينٌ باكي متوجع، يتحسر من غير ندم، ويحاسب نفسه من غير توبيخٍ، ويراجع مواقفه دون أن يحمل نفسه المسؤولية، بل يبرؤها بصدقه، ويقدسها بطهره، ويتعالى بها عن الدسائس والمؤامرات والخبائث بأصله الشريف، ومحدته الأصيل، وإرثه الكبير.

فما أصابه من ألمٍ جداً كبير، وما لحق به من خرابٍ أكبر من قدرته على الاحتمال، فهي مصيبةٌ كبيرة ينوء عن حملها أعظم الشعوب، وأقوى الأمم، وقد كان يتوقع من المعنيين بالوطن والشعب أن يقفوا إلى جانبه، وأن يساندوه في محنته، وأن يعجلوا في مساعدته، وأن يتسابقوا في تقديم العون له، والتخفيف عنه، ولكنهم قاموا بالضد من ذلك، وبالعكس مما توقعوا، فقد تركوه وحيداً مشرداً بلا مأوى، جائعاً بلا طعام، فقيراً معدماً بلا مال، عاطلاً بلا عمل، محبطاً بلا أمل، يائساً بلا أفقٍ يحمل حلاً، ولا بارقة أمل تبشر بخير.

الشعب الفلسطيني ليس سفيهاً أو مغفلاً، فهو يدرك أن المقاومة ما كان لها أن تنتصر لولا التفافه حولها، ووقوفه معه، وتأييده لها، وعدم اعتراضه عليها، وهو يعلم أنه كان القلعة الحصينة، والسور العظيم، والصخرة الكبيرة التي تحطمت عليها معاول العدو، وفشلت أمامه مخططاته، وعجز بسبب صموده وثباته عن تحقيق أمانيه ورغباته، ويدرك الشعب أن المقاومة من دونه وحيدة، ومن غيره عارية، وبعيداً عنه فقيرة معدمة، وضعيفة خائرة، فهي بصمود الشعب ثبتت، وبصبره انتصرت، وبعدم شكواه مضت، وبدون أنينه انطلقت.

حريٌ بنا أن نفخر بأنفسنا وبشعبنا، وأن نعتز بصبرنا وثباتنا، فما قدمناه أعظم مما قدمته قيادتنا، وأصدق مما أظهرته زعامتنا، وأوفى مما تشدق به المسؤولون، ورفعوا به عقيرتهم مفاخرين بنصرٍ لم يصنعوه، ومباهين بصمودٍ لم يشاركوا فيه، فحذاري أيتها القيادة من غضبة شعبكم، ومن ثورته عليكم، فقد فَقَدَ فيكم الأمل، وخابت فيكم ظنونه، فما عاد منكم ينتظر الرجاء، ولا منكم يتوقع الفرج، فاصدقوا معه ولا تكذبوا عليه، وأوفوا بوعودكم، ونفذوا التزاماتكم، وقفوا إلى جانبه ولا تنشغلوا بمصالحكم عنه، وإلا فاحذروه وخافوه، وترقبوا عقابه، واستعدوا لسؤاله ومحاسبته.