حينما كتب الأديب الشهيد غسان كنفاني قصته الشهيرة "رجالٌ في الشمس"، إقتصرت المأساة الإنسانية التي صورها في قصته على الرجال، وتجرع آثارها من بعدهم النساء والأطفال.
في قصة رجال في الشمس صهر حر الصحراء العربية ما بين العراق والكويت أجساد رجال ولدت مآسيهم من رحم النكبة، وبيع يومها الرجال الباحثون عن لقمة العيش أكثر من مرة بالمزاد العلني بين دلال وسيط ودلال حقيقي في سوق النخاسة البشري.
كان وقع كلمات غسان كنفاني التي صورت المآسي الإنسانية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني عام 1948 م، في مجموعة من القصص أشهرها عائد الى حيفا،كان وقعها أقوى من وقع الصواريخ وقنابل الهاون، لذلك سخرت إسرائيل كل الإمكانيات لإسكات هذا الصوت الذي يعبر عن المأساة أصدق تعبير. ويرفض التسليم بالقانون البشري الوضعي في شطب شعب كامل إنطلاقاً من الخرافة الصهيونية بأن فلسطين أرض بلا شعب. لذلك كان المعول الأول في مشروع الهدم الصهيوني للتأسيس لهذا الكيان هو تفريغ الأرض من سكانها الأصليين بالإبادة الجماعية والإقصاء القسري عن أرض فلسطين. وهذا ما سعت وما تزال تسعى اليه إسرائيل في كل زمان ومكان. وهو الهاجس الوحيد الذي يؤرقها. ونجحت اسرائيل بعد عديد من المحاولات في إسكات صوت صاروخ الكلمة المقاومة والرافضة للإستسلام والتسليم بالأمر الواقع والذي كان ينطلق من فيه غسان كنفاني كالبركان الهادر. وكان من قبل غسان كنفاني ومن بعده القادة العظام للثورة الفلسطينية الذين دفعوا ثمن الكلمة المقاومة من دمائهم وأرواحهم الزكية. كان المخطط يوم ذاك تصفية القضية الفلسطينية وشطب الشعب الفلسطيني من الخارطة الديمغرافية العالمية. ولكن القلم الفلسطيني ما زال ينزف بالكلمة المقاومة توازياً مع نزف الجسد الفلسطيني دفاعاً عن الحق.
كانت تتوقع أسرائيل أنها ستهضم ما تبقى من الفلسطينيين في أرض فلسطين داخل الخط الأخضر، تماماً كما يهضم الحوت فريسته ويحيلها الى عصارة يسهل هضمها وامتصاصها، ولكن ما علمت إسرائيل بأن يونس الفلسطيني سوف يخرج من بطن الحوت، وسوف يؤدي رسالته التي كلفه الله بها، وهكذا كان شعبنا الفلسطيني داخل الخط الأخضر، حفظ للأرض هويتها وللفلسطيني وطنيته وتمسكه بأرضه وتراثه. وظل شوكة في حلق الإحتلال محافظاً على هويته ورافضاً للإنصهار على الرغم من ممارسات الإحتلال العنصرية. ومن يبحث عن التراث الفلسطيني الأصيل دون تهجين أو تعديل سوف يجده في أهلنا داخل الخط الأخضر.
وكانت تتوقع اسرائيل أن من شردتهم في الشتات تحت نيران المدافع وهدير الطائرات سوف يذوبون وينصهرون في أماكن شتاتهم. ولكن اسرائيل ما علمت أن موسى الفلسطيني بعد وضعه في اليم ورميه بالبحر سيعود الى حضن أمه الفلسطينية وسوف يعود من تشرده ويؤدي رسالته التي أوكلت إليه وينجو من بطش فرعون وليكون الفارس الذي بعثه الله لينهي على يديه قصة حياة فرعون المتغطرس المتكبر ويهلك جبروته ووحشيته في قيعان البحار.
قوارب الموت كانت بإنتظار عائلات فلسطينية قررت الهجرة عن أرض الوطن، ولأسباب تعود في أصلها الى الإحتلال الذي فرض الحصار لسنوات طويلة وشن ثلاثة حروب بأسلحة مدمرة لكل ما تقع عليه من بشر وحجر وشجر، لا تبقي ولا تذر وذلك خلال ستة أعوام. وهنالك عوامل تعود الى الشأن الفلسطيني ذاته الذي ما زال منقسماً منذ عام 2006م. يعيشون تحت وطأة حكم الحزب الواحد الذي يمارس حكمه بدكتاتورية أيدلوجية متعصبة على شعبنا في غزة. ويؤمن إيماناً أعمى بنظرية الإقصاء للآخر ويتحاور معه بالسوط والكرباج، علاوة على تهميش ما يقارب أكثر من ثلثي سكان القطاع ممن لا يتبعون الحزب الحاكم في غزة. وتم تغييبهم عن ممارسة الحياة الإنسانية الطبيعية. وتم كبت كل مبررات الحياة في أعماقهم المقهورة. حيث فرض عليهم حصارٌ داخل الحصار، إقامة جبرية قهرية داخل المنازل، فتعطلت مواهبهم، وتجمدت طاقاتهم الإبداعية.وفقدوا الإحساس بالإنسانية ينتظرون لقمة العيش الكفاف مسلوبي الكرامة الوطنية وهم يعيشون في أوطانهم. تساوت عندهم الحياة بالموت، فققروا الذهاب الى مصير مجهول تحت رحمة عصابات مجرمة سواءً ممن هربهم من داخل القطاع وممن تولاهم بعد القطاع. وتم بيعهم بسوق النخاسة وانتهى بهم المطاف في قعر البحار طعاماً للأسماك والحيتان.
الجريمة بدأت من غزة ممن سهل لهم الهجرة وهربهم من الأنفاق، وتتواصل مع عصابات الإجرام من المهربين للبشر. وهي بحاجة الى تحقيق موسع للوصول الى أطراف الجريمة وتشابكاتها من غزة الى شواطيء مصر والى شواطيء ليبيا واليونان وإيطاليا لكشف الحقيقة.
مساعدة الفلسطينيين على الهجرة وتسهيل أمر خروجهم من القطاع جريمة ترقى الى الخيانة العظمى وتستحق عقوبة الخيانة العظمى، فهي التي فتحت الطريق لتنفيذ الجريمة الكبرى بحق العائلات الفلسطينية التي ربما رغب المسيطرون على غزة هجرتهم لأنهم لا ينتمون الى طيفهم.
بقلم أحمد ابراهيم الحاج
18/9/2014م