بحر الروم

بقلم: يوسف حماد

البحر منذ أبجديات النكبة الفلسطينية كان عنوانا تراجيديا متكررا، فعبره تدفق المستوطنين الغزاة، ومنه هجر الاف الفلسطينيين الى دول العالم في مشهد تكرر حديثا، وعليه طرد ثوارهم من عواصم العرب، وعلى رمال بحره الصغير، ضل الذين تمسكوا بالبقاء هناك يموتون بالجملة تختلط دمائهم بدماء اطفالهم الذين يكابدون الحياة منتظرين الموت الاسرائيلي او يختطفهم البحر هربا من قسوة الحياة.

فنرى العربي يفر من كوراث الارض البشرية لا الطبيعية في بلاده فتتلقفه حيتان البحار في بلاد الاخرين، هنا البحر الابيض المتوسط من شماله كانوا يأتي الغزاة الى جنوبه، فيها كان يعرف ببحر الروم، والان أمسى اهل الجنوب يهاجرون الى الشمال من تراجيديا الموت ذبحا وقهرا في بلاد العرب، فلا يصل بعضهم ان وصل الا بعد مكابدة الموت غرقا بعد ان يبتلع البحر مكرها نصفهم ويزيد". 

في القصة المأسوية الجديدة لغرق مراكب المهاجرين الذين يوصفوا بغير الشرعيين، والتي لم تنتهي فصولها بعد، يظهر الروم هنا لا في مشهد الغزاة انما كمنقذين في بحرهم القديم تظهر سفنهم وهي تجوب البحر بحثا عن ناجين، ويخيم صمت القبور على الجهات المسؤولية في الدول التي خرج منها المهاجرين تحت وقع ضجر الحياة الذي يلحقهم الى اعماق البحر، ولم يتطرق حكام العرب بالسؤال ولو محاباة لماذا دفع هؤلاء الشباب والعائلات بالمخاطرة بحياتهم بحثا عن ملجأ آمن وكريم، وهؤلاء الذين تتبد اسمائه الان كما اشلاهم في بطون السمك هم من فلسطين من سوريا نزوحوا من جحيم الموت البشري والظلم الانساني القبيح في بلادهم ولما لم يجدوا خيرا من ذلك اضطروا مجددا للهرب عبر البحر، ويكبدهم الموت من كل جانب.

فهكذا صار لصبرا وشتيلا وكفر قاسم ودير ياسين شقيقة اخرى تسمى مالطا وصقلية وقبرص، وصار للفلسطيني اشقاء في الموت الجماعي هم السوريون وصار للبحر ايضا وايضا رفيق حزين في النكبة الفلسطينية المستمرة منذ 65 عاما .

ومع كل ذلك تستمر الهجرة التي توصف بغير الشرعية من جنوب المتوسط الى شماله في التدفق والاستمرار من منطقة جديدة وهو قطاع غزة المحاصر من جهات الدنيا منذ 8 سنوات والذي اضيف الى سيل الدول والمناطق التي يخرج منها الشباب الى الحلم في اوروبا، فيفروا من حتفهم هنا الى حتفهم هناك ولسان حالهم يتأسى بالقول "وسوى الروم خلف ظهرك روم فعلى أي جانبيك تميل". 

"هدى غالية" صاحبة القصة الاصعب في تاريخ البحر في غزة، تحضر الان كما لا يحضر أي رمز، في قضية تحتشد بالرموز، والاحزان وهي لمن نسي او لا يتذكر طفلة فلسطينية قتل الجيش الإسرائيلي كل افراد اسراتها في عام 2006، ونجت في غفلة من القذيفة امام شاشات التلفزة العالمية التي ابكت مذيعيها والجزيرة تشهد بذلك، فنادت ابي يا ابي وسط نحيب مؤثر، فلم يجبها ابوها المسجى على ظله في مهب الغياب، وصارت هي الصرخة الابدية على شاطئ بحر ينبض بالموت واصبحت خبرا عاجل ليس بعاجل في غمرة الاحداث الدموية على الواقع الفلسطيني في رماله وشواطئه واعماق بحره

هناك بعيدا عن البحر بغزة عويل وذعر على ابنائهم أما في عرض البحر موتى وغرقى بالجملة، ابو شادي عصفور له 3 ابناء خرجوا للحلم الاوروبي لم يعرف عنهم الا انهم في عرض البحر يتخطفهم المجهول، قد يصعب الحديث الى ابو شادي بلغة المنطق لماذا تحل به المصيبة،مع ان غيره في المحنة كثر.

وفي الحديث عن الغرقى وجثثهم حتى اكرام الميت ليس متاحا، ولكن قد يعطف عليهم البحر بعد ان يشبعها ماء فيرميهم على اي يابسة قريبة من المؤكد انها ليست قطاع غزة، لان هذا البحر يشطاط قهرا على من خرج دون شيء، يبتغي حياة كريمة يبحث عنها بين امواج عاتية قد يخفض جناحه لاجلهم.

ولكن بعيدا عن اسوار الموج الازرق امام سواحل الروم وبحرهم وهم ارءف الناس على الغرقى فيخرجوا الى اعماقه لنجدة قوما تركوهم اربابهم المسؤوليين حتى يترشقوا بعضهم بعضا بالكلمات على وسائل اعلام تتلقف التصريحات لتسد فراغ العجز الاعلامي.

ولا عجب ان الحديث عن مئات الايتام والمشردين والنحيب المضجر في قطاع غزة اصبح كلاما فائضا لا حاجة له، لان الفلسطيني الميت كما الفلسطيني الطيب، في هذا الموت الذي ما فتئ يتكرر فاصبح لا عاديا جديد فيه.

يوسف حماد .. الاراضي الفلسطينية
[email protected]