في احدى جلسات الدردشة مع رفيقي / سمير ثابت ،وهو خريج جمهورية المانيا الديمقراطية ،قبل انقضاض الغرب الاستعماري علي نظامها الاشتراكي ،أثار اهتمامي الحديث عن رواية كتبها الالماني غريميتسهاوزن من القرن السابع عشر .وهي احدى الروايات الهامة التي جرى تحويلها لمسرحية رائعة ،بتأليف بيرتولت بريخت الشاعر والكاتب والمخرج المسرحي الالماني ،أثناء مقاومة صعود الفاشية والنازية بعد اجتياح بولندا من قبل جيش هتلر في العام 1939. ان مسرحية " الأم الشجاعة " أو " الأم كوراج وأبناؤها " هزت العالم في القرن العشرين ،وأحدثت جدلا بين النقاد ،وهي تعكس الروح الانسانية ،وتصور بشكل حي وقائع الحرب التي جلبت الكوارث والهلاك والدمار على بلدانها ،وتكشف دور مجموعات المصالح الغربية التي تثرى على حساب دم الشعوب من الفقراء والمسحوقين والجنود البسطاء ،وهي تحكي قصة امرأة تصر على التكسب من الحرب ،حيث تمتلك مقصفا وعربة تبيع للجنود ،وتشتري منهم ما سلبوه في الحرب ،وعلى مدار المسرحية تخسر ابنائها الثلاثة بسبب الحرب التي كانت تأمل في الكسب باستمرارها.
فهل تتطابق أحداث المسرحية مع واقع العالم العربي الآن على الرغم من اختلاف الزمان والمكان ؟؟؟ هل تمثل هذه المسرحية صرخة ضد الحروب ودوافعها المختلفة ،ونداء للشعوب من خطورة الحروب كوسيلة لحل النزاعات بين الدول ؟؟ بالتأكيد هناك فرق بين الحروب العدوانية التي يشنها الامبرياليون ،والولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل على شعوب المنطقة ،ومحاولاتها التدخل في شؤونها الداخلية ونظمها السياسية ،وتعمد أجهزتها الاستخباراتية لتأجيج الصراعات الداخلية ،وزرع الفتن بين أبناء البلد الواحد ،وبين الحروب الوطنية للشعوب المقهورة ،المطالبة بحق تقرير المصير والاستقلال ،وتمارس حقها في المقاومة بكل وسائل وأدوات الكفاح التي اقرتها الشرعية الدولية ،فالحروب العدوانية على الشعوب هي جرائم حرب ضد الانسانية ،تتنافى مع القانون الدولي والإنساني ،بما فيها نضال الشعوب العربية التحرري والاجتماعي والاقتصادي والديمقراطي ،وفي المقدمة منها انهاء الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة ،وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة ،وعاصمتها القدس ،وحق اللاجئين في العودة لديارهم طبقا للشرعية الدولية وقرار 194.
شهد العالم تغيرا كبيرا بعد الحرب العالمية الثانية ،خصوصا بعد هزيمة محور هتلر وموسوليني ،بفضل تضحيات شعوب الاتحاد السوفييتي ،ولكن بعد انهياره وتفككه ،تربعت امريكا على عرش العالم ،وخضع لنظام القطب الأوحد ،والهيمنة العسكرية ،وتصاعد عدوانها على الدول والشعوب خصوصا في منطقة منابع الطاقة ،ومارست دور الجلاد في المنطقة ،وحاولت في المرحلة الأخيرة تفكيك وإعادة تركيب المنطقة بما يتلاءم من جديد مع مصالحها العسكرية والنفطية والمالية ،وبما يخدم قاعدتها الأمامية اسرائيل العدو القومي للشعوب العربية ،وقدمت لها الدعم العسكري والسياسي ،وشجعتها على العدوان الاجرامي على قطاع غزة .واستطاعت ان تهيمن على مركز العالم في المنطقة ،وتخلق حالة من عدم الاستقرار ،ولم تتوان مجموعات المصالح العربية والإقليمية ،كقطر وتركيا والسعودية كمركز وبؤرة للفكر الوهابي التكفيري ،وبعض اجنحة الاسلام السياسي خصوصا المتطرف منها كداعش والنصرة ،وغيرها من مجموعات المرتزقة الاجانب ،تؤهلها لخدمة المصالح الامريكية والغرب الاستعماري ،وحلف الناتو ،مهمتها تفجير الصراعات الدموية المحلية والإقليمية ،وتفتيت وتقسيم الدول العربية ،وخلق فوضى داخلية ،وصراعات مذهبية وطائفية ،والبحث عن مصالحها الآنية على حساب الأهداف الوطنية لشعوب المنطقة ،وتشدد الولايات المتحدة الامريكية الآن على تشكيل تحالف من اولئك الداعمين للإرهاب في المنطقة ،تحت حجة الحرب على ارهاب داعش يشتم منه رائحة كريهة ،ومحاولة الالتفاف على قرارات مجلس الأمن ،وربما توجيه ضربة لبعض دول المنطقة كسوريا ومصر وإيران ...الخ
وفي قطاع غزة المحاصر والمدمر ،يتعرض لجملة من الانتهاكات والتداعيات الداخلية ،تنبئ بكارثة مبكرة ،فغزة المنكوبة الباحثة الآن عن الهدوء والاستقرار لتضميد جراحها وإعادة الروح لأبنائها ،بعد جريمة العدوان الاسرائيلي عليها ،وسعيها للعودة الى حضن الوطن ،وإنهاء الحصار ،وإعادة الاعمار ،تنشط مجموعات المصالح بأشكال مختلفة ،ولم تتركها لحالها ،فعمدت في البداية على الاستيلاء على كافة المعونات والمساعدات العاجلة المحلية والعربية والدولية ،وتخزينها وتوزيعها بالطريقة التي تراها ،مما عكس سخطا واسعا وخيبة أمل لدى الشارع في غزة ،خصوصا اولئك المستضعفين والمحتاجين للمساعدة ،كما شرعت أخطر تلك المجموعات بالمتاجرة بالبشر ،عبر تهجير الالاف من الفلسطينيين الذين ضاقت بهم سبل الحياة بحثا عن مصير آخر ،وذلك بطرق غير شرعية وغير آمنة وعبر انفاق الموت والعار ،وبالتنسيق مع مافيا التهجير من بعض المصريين ،همهم الوحيد جمع المال والاكتساب والثراء ،مما ادى الى استشهاد العشرات وفقدان المئات حتى هذه اللحظة في عرض البحر ،دون ملاحقة ومتابعة جدية من الجهات المختصة ،فهل مجموعات المصالح تنفذ ما عجز العدوان على تنفيذه عسكريا ،لإجبار ابناؤه على الهروب من جحيم الواقع من تحت الارض او من فوقها . ولم يتأخر سماسرة الاراضي ،وأصحاب العقارات من استغلال المواطنين الذين نزحوا من بيوتهم المدمرة كليا أو جزئيا ،ورفع ايجار الشقق السكنية دون رحمة أو شفقة ،كما جري تعطيل مهمات عمل حكومة الوفاق الوطني ،ووضع العراقيل امامها ،وإفشالها في تقديم العون العاجل ،وحل المشكلات الاجتماعية للموظفين ،ومشكلة رواتب موظفي حركة حماس ،مما ينبئ بتصاعد التوتر والقلق ،وبكارثة اجتماعية ونفسية ... الخ
لقد توقف قطار المصالحة في غزة ،وتعددت التفسيرات لبنود الاتفاق ،وتزايدت حدة الخلافات والصراعات على السلطة ،وتفشي الاحتقان في الشارع الفلسطيني في غياب التفاهم المشترك ،حول معركة اعمار غزة والأولويات لمعالجتها ،وتصاعدت الحملات الاعلامية المسمومة بين حركتي فتح وحماس ،على الرغم من تشكيل وفد فلسطيني موحد الى القاهرة ،وفشل محاولات الوفد الاسرائيلي التلاعب على التناقضات الثانوية بين أعضاء الوفد ،وحتى هذه اللحظة فان حكومة نيتنياهو لم تنفذ التفاهمات التي تمت برعاية مصرية ،وهربت من التوقيع عليها حتى تبيح لقوتها العسكرية ،التحرك في الزمان والمكان الذي ترتئيه .. وعلى الرغم من التضحيات التي قدمها شعبنا الفلسطيني ،وصموده البطولي ومقاومته الباسلة ،فقد تصاعدت لغة غير واقعية ،يدركها المواطنون من تحت الانقاض ،ويجري تحويل العدوان المدمر لغزة ،للحديث عن الانتصار ،ومحاولة الاستعجال لحرب وجلب عدوان اسرائيلي جديد ،بتقديم ذرائع لجولة اخرى ربما اشرس من سابقتها ،وتحمل ويلات مركبة وهندسية ،حتى قبل ان تنتهي جولة المفاوضات بخصوص المطالب والتهدئة ،وغياب دور فاعل ومؤثر لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية في غزة ،يتأرجح بعضها ما بين السلطة الشرعية وسلطة غزة ،وتراجع التنسيق ما بين قوى اليسار الفلسطيني . ان المقاومة ليست وسيلة للتربح والتكسب والامتيازات الخاصة على حساب المواطن والوطن ،وليست وسيلة للتعالي على المواطنين البسطاء ،وليست مهمة جهة بعينها ،مهما امتلكت من قوة وعتاد وتنظيم ،بل هي معركة الكل الوطني للدفاع عن النفس ،وصون الحقوق الوطنية ،فالوطن ملك الجميع ،والشعب هو المعلم الأول والقائد الأول والأخير . لقد وفر الحراك الشعبي والجماهيري في الدول العربية مهما كانت فعاليته ،فرصة تاريخية لإعادة الاعتبار للدور الجماهيري ،ولأحزابها الديمقراطية والتقدمية والشيوعية لمواجهة الاستراتيجية الامريكية في المنطقة ،والدول والمجموعات التي ربطت نفسها ،كوكيل حصري ورجعي في خدمة الامبريالية ،وداست على المصلحة الوطنية العليا للوطن والشعب .
طلعت الصفدي غزة – فلسطين السبت 20/9/2014
[email protected]