رفع الحصار عن غزة يعني حرية تنقل الأفراد والبضائع، ما يتعلق بالأفراد يرتبط بآلية العمل في معبري رفح وبيت حانون، الأول يتطلب اتفاقاً مع الأشقاء في مصر حول آلية عمل تسمح بجانب كبير من حرية التنقل، ولا أعتقد أن الأمر يتطلب تدريباً مسبقاً للطواقم الفلسطينية التي ستدير العمل فيه، حيث تمتلك الطواقم الخبرة الكافية التي اكتسبتها على مدار عقدين من الزمان، والثاني يتعلق بإتفاق مع الجانب الإسرائيلي ليس ضمن مفهوم التسهيلات بقدر ما يتماشى مع ما نصت عليه الاتفاقات الموقعة، حيث العمل به اليوم يكاد يقتصر على تسهيل مرور الحالات المرضية والبعض من رجال الأعمال، حتى الحالات الانسانية سقطت من أدبيات عمله.
أما الجانب الآخر المتعلق بالحصار يرتبط بحرية تنقل البضائع، وتحديداً بعض البضائع التي وضعتها حكومة الاحتلال على القائمة السوداء ومن ضمنها مواد البناء، وبالتالي مشكلة الحصار الجوهرية تتعلق بمواد البناء "الأسمنت والحديد والحصمة"، وأي إجراءات لا تتيح لهذه المواد الدخول إلى غزة حسب حاجة السوق إليها تبقى إجراءات تجمل صورة الحصار ولا تعالجه، والحديث اليوم يدور حول إجراءات رقابية معقدة من قبل منظمات دولية لمتابعة حركة مواد البناء، الإجراءات المعقدة لن تقف فقط عائقاً أمام الإسراع الذي ننشده في إعادة إعمار ما دمره الإحتلال، بل يقف سداً منيعاً امام عمل القطاع الخاص، وبالتالي قد يقتصر العمل على السماح التدريجي بإعادة القطاع إلى ما كان عليه سابقاً دون فتح آفاق التطور المرتبط بالزيادة الطبيعية للسكان ومتطلباتها.
لا شك أن حركة كيس الأسمنت بات اللغز المحير للمواطن، حيث التداول به اشبه ما يكون بالتداول بالمواد المخدرة، ناهيك عن سعره الذي قفز لأرقام فلكية تكفلت بإصابة البناء وتفرعاته بشلل أبقاه طريح الفراش، ودفع عشرات الآلاف من الانتساب رغماً عنهم لحزب الكنبة، الحزب الذي يتمدد يومياً عدد المنتسبين له، سواء من انتسب إليه حاملاً معه شهادته الجامعية أو أولئك الذين يرتبط عملهم بشكل ما بكيس الأسمنت، لعل المهن المرتبطة بكيس الأسمنت والتي تتجاوز الثمانين مهنة تتكفل بقرع الخزان في حضرة التفاوض حول أبجديات رفع الحصار.
يبدو أن التطمينات المطلوبة للسماح لكيس الأسمنت بالمرور إلى غزة كثيرة ومتشابكة، فعلى سبيل المثال إذا إحتاج المواطن للأسمنت عليه أن يتقدم بطلب مشفوع بالمستندات والخرائط التي تؤكد حاجته له، وطبقاً لها يتم تحديد الكمية المطلوبة ليتم بعدها الصرف على مراحل، وعملية الاعمار ذاتها ستمر بخطوات مشابهة من التعقيد وإن تكفلت المنظمات الدولية بذلك، ويبدو أن كل هذه الإجراءات الصارمة التي قبلت بوضع الأسمنت في خانة "الممنوعات" لم تلب الاشتراطات الاسرائيلية، وهو ما دفع المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط "روبرت سيري" للتفكير في إمكانية نشر جيش من المراقبين الدوليين قد يصل عددهم إلى 500 مراقب دولي لمتابعة خطوات كيس الأسمنت وكل حركة له من لحظة دخوله قطاع غزة وحتى يلفظ أنفاسه الأخيرة في إحدى مشتقات البناء، والمؤكد أن هذا الجيش من المراقبين ستتحمل ميزانية إعادة الإعمار تكاليف تشغيلهم.
السؤال الذي يطرح ذاته في ظل هذا التعقيد من الإجراءات هل يمكن لإعادة الإعمار أن تمضي قدماً؟، وكيف يمكن للمواطن التعاطي مع المادة المخدرة الجديدة "الأسمنت" في إحتياجاته الملحة؟.