في كل مرّة تدخل القيادة السياسية الفلسطينية مأزقاً سياسياً تعلن توجهها لعقد جلسات حوار تطلق عليها جزافاً إسم "الحوار الوطني"، شاهدنا جميعاً هذا التكتيك الممل الذي لم يعد ينطلي على أحد من أبناء الشعب الفلسطيني، ولم يعد أي شخص يحترم تفكيره يثق في إمكانية أن يقدم كلاً من حماس وعباس أي جديد للشعب الفلسطيني سوى الكارثة والتراجع في كل قضايا الشعب الفلسطيني.
لم تكن الحرب على قطاع غزة المحطة الوحيدة التي كشفت عورات القيادات السياسية الفلسطينية، بل كانت أبرزها نظراً لهول الكارثة وحجم التضحية التي قدمها أبناء الشعب الفلسطيني من أرواحهم وممتلكاتهم، تجربة باللحم والدم خاضها الشعب الفلسطيني دون حسابات، لأن الواجب كان يقتضي من كل الوطنيين الإصطفاف خلف موقف واحد برغم علّات هذا الموقف، بإنتظار نتائج سياسية مشرفة تعيد الإعتبار للقضية الوطنية الفلسطينية، وتحمي تضحيات الشعب الذي لم يتوقف عن بذلها في سبيل الحرية والكرامة والعيش الكريم.
إنتهت المعركة ولم تنته المأساة، فما زال آلاف الفلسطينيين بإنتظار حصاد نتائج سياسية موعودة تنهي الحصار وتفتح ميناءاً ومطار، وتحقق جملة من الشعارات أطلقت إثناء وبعد المعركة، ونتائج إقتصادية وإجتماعية تعيد المشردين إلى منازلهم، وتعيد للشعب وحدته وتلاحمه وتعزز صموده لإستكمال عملية التحرر الوطني والخلاص من الإحتلال، ودخل كل من عباس وحماس في معركة جديدة أسوأ من سابقاتها من حيث اللغة والتوقيت، إلى أن جرى جمع الشمل من جديد في القاهرة لحوار يبدأ في 23 سبتمبر الجاري ويستمر ثلاثة أيام مقتصراً على تمثيل ثلاثة من الفصائل الفلسطينية يطمح إثنان منها للشراكة في كل التفاصيل بإستثناء الشراكة في تحمل مسؤولية مأساة الناس وما آلت إلية أحوال الشعب الفلسطيني.
اللافت أن جولات الحوار الجديدة تأتي بعد مواقف فصائلية - نشرت قبل أيام، مفادها وغرضها ترحيل إجراء الإنتخابات التشريعية والرئاسية إلى أجل غير مسمى، رغم أنها مجدولة زمنياً حسب "إتفاق القاهرة" واعتبرت أنها المهمة الأبرز لحكومة التوافق تعمل على تهيئة الظروف لتنظيمها، ولم يعلق أحد من الفصائل الفلسطينية على هذا الموقف، وكأن التوافق الفصائلي على مصادرة هذا الحق أصبح أمراً لا مفرّ منه يحقق "حلم الشراكة" عند "حماس" ويدمجها مع "عباس" في مسار مفاوضات لا نهائية برعاية وموافقة أمريكية دون أي إعتبار لتجارب تفاوضية أوصلت كل الفلسطينيين إلى ما هم عليه الآن.
الملاحظات على مناورة "الحوار الوطني" الجديدة كثيرة من حيث طبيعة التمثيل والأهداف، فهذه الجولة التي تجاهلت بقية الفصائل وتيار فتحاوي أساسي ومهم يتزعمه عضو المجلس التشريعي "محمد دحلان" بما يمثله من ثقل سياسي فلسطيني وعربي ودولي، وبإعتباره صاحب الخلاف الأساسي مع حماس اولاً ومع محمود عباس ثانياً، إضافة إلى تجاهلها لمشاركة قوى مجتمعية وشخصيات سياسية أخرى لها مواقف من كل ما يجري وقد تساعد الأطراف على تجاوز عجزها إذا ما صدقت النوايا.
التحدي الأبرز الذي يواجه جولات "الحوار الوطني" ومفاوضات و"قف النار" التي ستتبعها هو ملف الإعمار الذي سيبقى معلقاً ومشروطاً وغامضاً وسط زحمة من التصريحات الفلسطينية المتناقضة، مما يفتح مجالاً واسعاً للشّك في إمكانية تنفيذ الإعمار والحصول على التمويل اللازم لذلك حتى إن نجح عقد مؤتمر الإعمار في القاهرة، فهناك آليات تنفيذ غامضة لم يفصح عنها بشكل جلي تقطع الشك باليقين وتؤسس لثقة بإمكانية دخول عملية الإعمار إلى حيّز التنفيذ أمام إشتراطات أمنية إسرائيلية صعب على أي فلسطيني الإستجابة لها.
شراكة سياسية أو تقاسم وظيفي أو تكريس الإنقسام، حكومة توافق وطني تؤسس لإجراء الإنتخابات أو حكومة "طربوش" غائبة رهينة للتفرد من عباس، مفاوضات سياسية جديدة كما يطمح أبو مازن أو "حرب جديدة لا مفر منها" كما صرح أحد قيادات حماس، جميعها قضايا مطروحة للنقاش ومن حق كل فلسطيني أن يشارك برأيه ويطرح التساؤلات في كل ما يجري، هذا الحق الذي جرى إسقاطه على مدار السنوات السابقة ضمن سياسات منظمة نفذتها الفصائل وزادت من عزلتها عن أغلبية الشعب الفلسطيني ودفعت بالكثير منهم للموت في عرض البحر بحثاً عن مستقبل أكثر أمناً وإستقرار.
لا زال نهج التفرد والإقصاء وتغييب الجماهير يهيمن على عقلية وأداء قادة الفصائل، ولم يقيموا وزناً لكل ما جرى خلال الحرب على غزة وما سبقها، ولم تجر الإستفادة من دروس الفشل والإخفاق التي وضعتهم على عتبة السقوط قبل الحرب، وعليهم أدراك أن أي حوار لا يعير إهتماماً للمشاركة الشعبية والسياسية والإجتماعية الواسعة ويعيد حق الشعب في إختيار ممثليهم مآلاته الفشل بدون أدني شك، وسيبقى عباس وشركاه أسرى السقوط المحتمل في أي لحظة، بعد أن فقدوا معظم عناصر القوة كانت ركيزتها الأساسية الشعب الفلسطيني واستبدلوها بعصابات مسلحة خارجة القانون .